خصائص الإسلام العامة (الشمولية)

خصائص الإسلام العامة (الشمولية)

 

 

خصائص الإسلام العامة

«الشمولية»

 

محمد فريجه

قم ـ ايران

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الشمولية

1 ـ شمول النظام الإسلامي لكل نواحي الحياة:

الإسلام هو الدين العالمي الخالد، الذي أنزله الله على نبيه، والنظام الإسلامي ينظم علاقة الإنسان بربه ـ في العقيدة والعبادات ـ وعلاقته بنفسه بالأخلاق والطعام واللباس وعلاقته بغيره في المعاملات والعقوبات.

وهو نظام عامل شامل لجميع نواحي الحياة نظم غرائز الإنسان تنظيما دقيقا أشبعها إشباعا صحيحا، عالج مشاكله ونظم أموره. فكان الإسلام نسيبج وحدة في رعاية الإنسان وضمان حاجاته الأساسية، وكفالة الحقوق الطبيعية ليكون مرفها في الحياة مطمئنا فيها حاصلا على حقوقه وحاجاته بطريقة معينة تميز بها عن غيره.

فان عجز الفرد عن توفير حاجاته الأساسية أو حرم الرفاهية والتمتع بحقوقه كان على الدولة الإسلامية، ان توفرها لـه بالطريقة الإسلامية التي هي أحكام شرعية عالجت

ـ(364)ـ

هذه الأحكام كل مشكلة تقع للإنسان في حياته في كل زمان ومكان، وكانت هذه المعالجة قائمة على ادراك عميق ومستنير لواقع مشاكله، واستنباط صحيح من نصوص الإسلام، وانبثاق دقيق عن عقيدته واتفاق منسجم مع فطرة الإنسان التي فطره الله عليها.

وقد تناول نظام الإسلام جميع نواحي الحياة بشكل عام وبأسلوب واحد، ولهذا تجده لا يتناول مشكلة من مشاكل الحياة على حدة في عزلة عن باقي المشاكل بل يتناول جميع المشاكل ويضع لها قواعد كلية وخطوطا عريضة متفقة مع القواعد العامة الكلية، حتى تتمشى المعالجة وفق فلسفة كبرى تنبثق عنها هذه القواعد العامة ولذلك كانت طاقة الإسلام قوية وكانت قواعده ثابتة لا تتغير وصالحة لمختلف العصور والبيئات فتتسع القاعدة الواحدة لكافة الحوادث المنتظمة في سلكها إذا اتفقت في حقيقتها.

ولا تتغير الأحكام بتغير الزمان أي لا يكون الزمن والعرف سببا للحكم، بل يدور الحكم مع علته الشرعية وجودا وعدما. ويطبق الحاكم أنظمة الإسلام ويبرز هذا التطبيق في خمسة نواح: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والحكمية.

وهذه النواحي الخمس طبقت جميعها من قبل الحاكم في مختلف العصور الإسلامية:

1 ـ اما الناحية الاجتماعية: وهي علاقة الرجل بالمرأة والطلاق والنفقة وجميع ما يتصل بهذه العلاقة التي سميت في عصرنا اسما غربيا: الأحوال الشخصية فإنها الوحيدة التي لا تزال قائمة وموجودة في جميع البلاد الإسلامية وان غير بعض الحكام جزئيات فيها متأثرين بالمفهوم الغربي للمرأة، وابتعاد الحكام عن الإسلام كنظام وعدم تطبيق أحكامه في نواحي الحياة

ـ(365)ـ

2 ـ اما الناحية الاقتصادية: فانها تبرز في مسألتين، الأولى: كيفية أخذ الدول لمال من الأمة والثانية: كيفية انفاق هذا المال، اما من حيث أخذه، فكانت الدول الإسلامية تأخذ الزكاة على الأموال والأراضي وعروض التجارة والمواشي والزروع والثمار باعتبار الزكاة عبادة، لتقوم بتوزيعها على الذين لهم حق بها، من الأصناف الثمانية المقررة شرعا كما تأخذ الخراج والجزية والضرائب بحكم أشرافها على التجارة الداخلية والخارجية وكانت تقوم على إدارة ما هو داخل في الملكية العامة، أو ملكية الدولة، كالمعادن والقنوات وغيرها من موارد بيت المال، اما من حيث أنفاق هذه الأموال فإنها كانت توزعها حسب الأحكام الشرعية، وقد طبقت أحكام النفقة على العاجز وحجرت على السفيه والمبذر، وأوجدت أماكن لأحكام الفقراء والمعسرين ونفذت أحكام العمل والعمل، ومنعت الاحتكار والغش والاستغلال وكل وسائل الكسب غير المشروع.

ومن الحق ان نقول: ان بعض الحكام كانوا يسيئون تطبيق أحكام الشرع في هذه الناحية وكان البعض الآخر يحسن غاية الإحسان في رعاية هذه الناحية تبعا لنفسية الحاكم ومدى التزامه بالأحكام الشرعية، وموقف الأمة منه خصوصا العلماء فإذا حصل لبعض الحكام ان يقصّر ويسيء فلا يعني هذا عدم التطبيق.

3 ـ أما الناحية التعليمية: فان الأساس الذي كان قائما على هذه الناحية هو الإسلام بتركيز العقيدة الإسلامية حين التعليم ونشر الأحكام الشرعية المتعلقة بشؤون الحياة وتعليم الثقافة الإسلامية والعلوم الأخرى. حتى أصبحت البلاد الإسلامية الخاضعة لحكم الإسلام موئلا للعلوم وقعرا لدراسة المعارف. وكانت جامعاتها والمعاهد العلمية سواء أكانت في المساجد أو في دور خاصة محط أنظار العلماء وأهل المعرفة ورواد العلوم وكان لتلك الجامعات والمعاهد الأثر العظيم في توجيه التعليم ونشر

ـ(366)ـ

الثقافة في مختلف العلوم ومن هذه المعاهد والجامعات تخرج كبار العلماء والمفكرين الذين لازالت مؤلفاتهم موضع أكبار ومن معينها يستقي المفكرون ويورد الموربون، وكل الذي حصل من تقصير في هذه الناحية هو ما كان قائما في العصور المتأخرة كالعثمانية من قلة المدارس ونضوب العلم والمعرفة.

4 ـ اما السياسة الداخلية والخارجية، ففي الناحية الداخلية كان يطبق نظام الإسلام على المسلمين وهذا قائم مادامت الدولة الإسلامية قائمة، وإذا حصلت إساءة في تطبيق بعض تفصيلات نظام الإسلام فلا يعني هذا عدم وجوده، حيث ان المسلمين لم يرتضوا بغير الإسلام نظاما لهم كما لم يستوردوا نظاما ولم يسمحوا بدخول نظام أجنبي بل لم يترجموا أي نظام أو قانون في الوقت الذي ترجموا الفلسفات الأجنبية والعلوم والمعارف.

وفي الناحية الخارجية: كانت علاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول قائمة على أساس الإسلام، وكانت الدول في العالم تنظر إلى الدولة القائمة في العالم الإسلامي، دولة إسلامية فأحكام المعاهدات والجهاد وسائر الأعمال كانت تستنبط من أدلة الشرع وقد خلف العلماء ثروة هاءلة من الأفكار الإسلامية في هذه الناحية وغيرها.

5 ـ أما نظام الحكم المطبق في العصور الإسلامية، فقد كان نظام حكم إسلامي فكان جهازه إسلاميا حيث قام على سبعة أركان هي: الخليفة: وهو رئيس الدولة والمعاونون للرئيس في الحكم والولاة في الأقاليم والقضاة والجيش والجهاز الإداري ومجلس الشورى، وهذا الجهاز كان قائماً. وتفصيل ذلك:

ان الأمة الإسلامية من لدن حياتهم في المدينة المنورة، حتى عام 1924 كان عليهم خليفة، وان سمي في بعض العصور بالسلطان أو الملك. والمعاونون وهم الهيئة التنفيذية فقد كانوا موجودين في جميع العصور وان وصفوا بلقب الوزراء في بعض

ـ(367)ـ

العصور كالعصر العباسي اما الولاة والقضاة والجهاز الإداري فقد كانوا موجودين كذلك ولازالت هذه المناصب موجودة في بعض الأقطار في العالم الإسلامي.

أما الجيش فوجوده لا يحتاج إلى دليل إذ هو صاحب الفتوحات الإسلامية العظيمة وهو القوة الجبارة التي كانت ترهب الكفار في العالم.

اما مجلس الشورى فان من الأمانة في البحث ان نقول انه لم يعن به من قبل الحكام عناية حقة إلا في زمن الخلفاء الراشدين. فقد كان غير هؤلاء يكتفون بأخذ المشورة من افراد معينين وثقوا بهم وهم الذين سمحوا بأهل الحل والعقد في بعض العصور ومنهم من اتخذ من معاونيه أو معاونه الأسبق سبيلا لتحقيق الشورى، وان كان من الواجب ان يكون هذا المجلس قائما لأنه من حق الأمة على الخليفة، لذا فالذي حصل في العصور المتأخرة في مسألة الشورى تقصير، ومع ذلك فان الحكم كان إسلاميا، ولان الشورى هي لأخذ الرأي بخلاف المجالس النيابية في النظام الديمقراطي فهي للحكم.

وكل الذي يؤخذ على جمهرة الخلفاء هي مسألة بيعة الخليفة ومسألة استعمال القوة المادية في تولي الحكم أما البيعة يومئذ فقد كانت تؤخذ لابن اواخ أو من أسرة الخليفة القائم في حياته، ثم تجدد لذلك الشخص بعد فقدان ذلك الخليفة وهذه إساءة لتطبيق حكم البيعة، إذ البيعة شرعا تعقد للرجل الذي ترضاه الأمة وتختاره بعد فقدان خليفتها، وإساءة تطبيق حكم البيعة هذه هي الشبهة التي حسبها البعض بأن نظام الحكم الإسلامي كان وراثيا في جل العصور الإسلامية وهو ما يعبر عنه بالنظام الملكي، وهذا يتنافى مع أحكام الإسلام في نظام الحكم.

والحقيقة ان ولاية العهد أو الحكم الوراثي لاصلة لـه بالإسلام وبالتالي لم يطبق في جميع العصور الإسلامية ولم ينصب خليفة دون بيعة تؤخذ في تلك العصور من

ـ(368)ـ

أهل الحل والعقد ثم أخذت من شيخ الإسلام وهذا يتناقض مع مفهوم الوراثة أو ولاية العهد، لوجود البيعة الثانية وهي الأصل، والأولى مفهوم الوراثة: كانت سبيل الترشيح الالزامي، ولو اكتفى بالأولى لصح القول وكانت تلك الشبهة حقيقة قائمة لا شبهة، والبيعتان هاتان لا يقرهما الإسلام، وإنّما بيعة واحدة تعلن فيها الأمة عمن تريده خليفة عليها بدون إكراه، يبايعها على تطبيق الإسلام وتبايعه هي على السمع والطاعة.

اما استعمال القوة في تولي الحكم وفرض شخص معين على الأمة وهي لا تريده ولا ترضاه حاكما عليها فهذا لا يجوز شرعا ولا يقره الإسلام، ولو ان هذا الشخص أعلن أنه يطبق الإسلام ويرعى الأمة على أساسه إذ الأمة هي صاحبة السلطان، ولها الحق، ان تختار شخصا معينا ليكون نائبا عنها في الحكم وتولي السلطان.

وهناك شبهة أخرى وهي حدوث بعض الإساءات ووقوع بعض المظالم من قبل بعض حكام الدول الإسلامية فحكم البعض على هذه الوقائع التاريخية، بعدم تطبيق الإسلام في ذلك الحين، ومن الجدير بالذكر إننا لا ننكر حدوث إساءات أو وقوع مظالم في بعض العصور الإسلامية، وفي ظل بعض الحكام لا تعني ان الحكام كانوا كافرين لا يحكمون بما انزل الله ولا تعني ان المجتمع كافر.

وان معرفة أحوال المجتمع تكون بمعرفة نوعية النظام الذي كان مطبقا ومدى تطبيق الحاكم والمحكوم لـه: معرفة مصادر النظام المطبق في الحياة في العصر وهي: الكتاب والسنة والاجتماع والقياس.

ومعرفة مصادر التاريخ الذي كيفية تطبيق النظام. وتعرف نوعية وتفهم صحة معالجاته لمشكلات الحياة، ويحكم على صلاحه وسلامته أو فساده وخطئه من معرفة مصادره الفقهية المستند عليها. كما قال الإمام الخميني: في القرآن والحديث من

ـ(369)ـ

الشمول لجميع جوانب الحياة.

2 ـ الترابط والانسجام بين الأنظمة الإسلامية

ان ربط المادة بالروح هو أمر واجب بين الأنظمة الإسلامية، ليكون لانسجام الروح أثر يظهر في المادة وفي توجيهها نحو غاية سامية.

ولذلك يجب ان يقضى حسب فلسفة هذه الأنظمة على كل ما يمثل الناحية الروحية منفصلة عن الناحية المادة. ولذلك فلا رجال دين في الإسلام، وليس فيه ما يسمى سلطة دينية، ولا سلطة دينية، ولا سلطة زمنية منفصلة عن الدين بل الإسلام دين منه الدولة وهي وسيلة لتنفيذ الأنظمة.

ويجب ان يلغى كل ما يشعر بتخصيص الدين بالمعنى الروحي وعزله عن السياسة والحكم فتلغى المؤسسات الروحية المشرفة على النواحي كالمجلس الإسلامي الأعلى وما شابهه من مؤسسات وتلغى إدارة المساجد وتكون تابعة لإدارة المعارف.

وتلغى المحاكم الشرعية والمدنية، ويجعل القضاء واحدا لا يحكم إلا بالأنظمة الإسلامية فسلطان الإسلام واحد يشرف على جميع الشؤون. وعقيدة الإسلام تنبثق عنها أنظمته المرتبطة بها بانسجام.

وعلى هذا الاعتبار قامت الأنظمة الإسلامية التي عالجت جميع شؤون الحياة للأمة.

الخطوط العريضة للأنظمة الإسلامية:

النظم هي ضوابط الأعمال الإنسانية في الحياة سواء أكانت هذه الأعمال ناتجة عن علاقة الرجل بالمرأة أم عن علاقة الفرد بالفرد من ناحية اقتصادية، أم ناتجة عن ضمان حسن علاقة الفرد بالفرد بوجه عام، ام عن علاقة الفرد بالدولة باعتباره محكوما وبوصفها حاكمة، ام ناتجة عن علاقة الجماعة والدولة بغيرها من الدولة وهذه الأعمال كلها لابد لها من أنظمة تضبطها.

ـ(370)ـ

وبما ان أنظمة الإسلام منبثقة عن فكرة واحدة هي عقيدته، فمن البديهي ان يكون لهذه الأنظمة على اختلافها قواعد كلية تجمعها بانسجام. حتى يكون علاجها منسقا للأعمال، منتجا للمجتمع الإسلامي. بالنظم التي تنظم للإنسان القيام بتكاليف الحياة بما يرفع شأن الجماعة ويسعدها، ويحفظ بقاءها، والقيام بالأعمال وفق هذه النظم عبادة لأنها يجب تسييرها بالمثل الأعلى رضا لله مقصودا منها تحقيق اجابة لأمر الله ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾.

أولا: النظام الاجتماعي:

يطلق كثير من الكتّاب لفظ النظام الاجتماعي على كل علاقات المجتمع ولم نر في هذا التوسع ما ينطبق على أصل مدلول كلمة الاجتماع، والصحيح ان علاقة الرجل بالمرأة هي المنتجة لذلك، فهي أصل الاجتماع ولعل علم الاجتماع إنّما نشأ عنها، فكان جديرا تسمية هذه العلاقة وحدها بالنظام الاجتماعي، وما عدا ذلك من العلاقات فتسمى أنظمة مجتمع لا اجتماع.

فالنظام الاجتماعي الإسلامي متميز فريد، ولا يوجد لدى أية أمة نظام اجتماعي صحيح مثله. ولذا يجب ان يكون واضحا ان النظام الاجتماعي الإسلامي، هو الأحكام الشرعية المنظمة علاقة الرجل بالمرأة.

1 ـ المجتمع وحده مؤلف من وحدات متماسكة، هي الأسر. ولذلك كان من أهم ما في نظام المجتمع، علاقة الرجل بالمرأة ووجوب تعاونهما لصلاح الجماعة.

2 ـ كل من الرجل والمرأة إنسان كالآخر. وما فطر فيهما من غريزة النوع أمر طبيعي لبقاء النوع وتركه بلا نظام يؤدي إلى الفوضى والاضطراب.

3 ـ تنظيم غريزة النوع يكون بنظام الزواج، وضمان الفضيلة والصلاح بتعاون

ـ(371)ـ

المرأة والرجل يقضي ان يكون تعاونهما جماعيا وان يمنعا من كل عمل يثير غريزة الجنس.

4 ـ تقسيم أعمال الأسرة وفق التقسيم البيعي يقضي بجعل المرأة أماً وربة بيت، ويجعل الرجل قوّاماً على المرأة لما يتمتع به من الصفات المؤهلة للقيادة والمسؤولية.

5 ـ يضمن في نظام الزواج تساوي الحرية لكل من الرجل والمرأة في اختيار شريكه. كما يضمن لكل منهما ترك الآخر عند تعذر السعادة الزوجية.

6 ـ للمرأة الحق فيما لا يتعارض مع نظام الأسرة ومصلحة الأمة، فلها ان تشتغل بالتجارة والصناعة والزراعة، وان تنتخب وتنتخب، بشرط المحافظة على بقاء مجتمع النساء منفصلا عن مجتمع الرجال، وشرط منع الخلوة ومنع التبرج وإبداء الزينة، ومنع الاختلاط.

7 ـ القضية ذات الموضوع في علاقة الرجل بالمرأة هي الخلق، والمرأة عرض يجب ان يصان بالحجاب.

ثانياً: النظام الاقتصادي:

يبنى النظام الاقتصادي الإسلامي على ثلاث قواعد هي:

1 ـ أن المال لله، والجماعة مستخلفة فيه عن الله لقولـه تعالى:﴿ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾.

2 ـ ان كنز المال ممنوع، ويجب توظيفه في المجتمع. لقولـه تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾.

3 ـ ان تداول المال بين المجتمع واجب. ويمنع حصر التداول بين فئة من الناس الأغنياء لقولـه تعالى: ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ﴾

ـ(372)ـ

أ ـ سياسة الاقتصاد الإسلامي:

1 ـ الفكرة الاقتصادية العامة مراعاة مصلحة الجماعة حين النظر لمصلحة الفرد، وان تراعى مصلحة الفرد حين النظر لمصلحة الجماعة.

2 ـ النظرة العامة للاقتصاد هي انه وسيلة لسعادة الحياة، واستعمال هذه الوسيلة ينبغي ان يكون بتوجيه المثل الأعلى. لان الاقتصاد جزء من الأنظمة الإسلامية العامة.

3 ـ حق الملكية العامة للجماعة طبيعي، وحق الملكية الفردية شرعي، ولذلك تعرف الملكية بأنها: الانتفاع بالعين المملوكة انتفاعا شرعيا بسلطان من الشارع.

4 ـ حدد الشارع وسائل التملك الفردي وهي: العمل والحاجة للمال للحياة وحاجة الجماعة للانتفاع بملكية الفرد. والحاجة إلى تفتيت الثروة. وصلة الأفراد بعضهم ببعض.

5 ـ حدد الشارع للفرد حق التصرف في العين المملوكة في التنمية والأنفاق لضمان مصلحة الجماعة منعه وإجباره على الأنفاق على من يعولهم عن سعة، لأن الدولة لابد ان تمنع الفقر وعيش الفقراء، ومنعه من الإسراف إلى حد الترف، وفي تنمية المال منعه من الفسق والاحتكار والرباء، واعتبر المال المأخوذ بهذه الوسائل الممنوعة غير مملوك.

6 ـ كل ما كان من مرافق الجماعة كالمراعي والأحراش والمناجم والبترول والطرق وغيرها مما شابهها هي ملك للدولة.

7 ـ كل ما تقتضي المصلحة العامة بتملكه مما للأفراد، كوسائل المواصلات وتوليد الكهرباء وتوريد المياه، فللدولة تملكه بثمنه.

8 ـ كل ما تأخذه الدولة من غنائم وضرائب وأموال مصادرة هو ملك الدولة.

ـ(373)ـ

9 ـ يمنع الإسلام الربا، ويقوم بيت المال بإصدار نقد الدولة، وإقراض المحتاجين من الزراع والتجار دون ربا، ويكون بإنشاء فرع منه يقوم مقام المصرف.

10 ـ رقبة الأرض في البلاد المفتوحة ملك للدولة، ومنفعتها ملك للفرد، وتوزع هذه المنفعة حسب الحاجة.

11 ـ يجوز استخدام العامل بالأجرة في حدود جهده، ومقابل أجر مواز لجهده، ويمنع استغلاله. وللعامل عند مستأجره من الحقوق والواجبات ما لموظف الحكومة سواء بسواء.

12 ـ تحمل الدول مسؤولية نفقة الأفراد وإيجاد الأعمال لهم.

13 ـ الزكاة: باب من أبواب الاقتصاد في واردات بيت المال، حددت لـه المصارف والنفقات، ولا تدخل في شؤون الدولة الاقتصادية، وإنّما تدخل في باب الواردات المجبية من المسلمين، لأن الزكاة مع كونها اقتصادية هي عبادة وجبت حقا على المال.

ولذلك كانت في أحكامها تخالف أحكام باقي النواحي المالية من حيث جبايتها، وتوضع في ميزانية بيت المال في باب خاص بها. ولا التصرف إلا للأشخاص الثمانية الذين ذكروا في القرآن. ومن عداهم فلا يصرف لـه منها شيء. ولذلك لا يجوز ان ينفق منها شيء على شؤون الدولة، وإذا لم يوجد من الثمانية تنفق في سبيل الله عند الحاجة.

ثالثا: نظام الحكم السياسي:

1 ـ الأصل في السلطان للجماعة على الأفراد وكل شيء في محيطها، ولذلك فالحكم للجماعة، والدولة نائبة عنها في الحكم.

2 ـ شكل الحكم في الإسلام ليس ملكيا ولا جمهوريا، ولا ديمقراطيا ولا ديكتاتوريا، إنّما هو نظام حكم إسلامي متميز فريد ليس لـه مشابه.

3 ـ رئيس الدولة نائب عن الأمة، حتى يحقق سيادة الشرع، مصلحة الجماعة،

ـ(374)ـ

ويبقى رئيسا ما دام منفذا للشرع، قائماً بمصالح الجماعة، وإذا ادخل استحق العزل بمحكم المظالم.

4 ـ انتخاب رئيس الدولة والحكومة يعبر عن رأي الأمة، وطريقة أنخابه تعينها الأمة.

5 ـ الأمة تختار رئيس الدولة. هي التي تملك حق نزع الثقة من الهيئة التنفيذية والولاة بواسطة مجلس الشورى.

6 ـ مجلس الشورى ينتخب من قبل الأمة. وله صلاحية الثقة من الهيئة التنفيذية والولاة فيعزلون، وله صلاحية سنن القوانين، لقول عمر لشريح: فأنظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به.

7 ـ لرئيس الدولة حق تعيين الهيئة التنفيذية والولاة، وأمره هو الذي يجعل القوانين نافذة.

8 ـ لرئيس الدولة حق منح السلطة القضائية لشخص أو جماعة، وللقضاء سلطته الشاملة على الجماعة والحكومة ورئيس الدولة.

9 ـ التشريع من حق الدولة وواجبها، فتأمر بتنفيذ ما تراه من الأحكام الشرعية من آراء الأئمة المجتهدين. وما يحدث من مشكلات وحوادث ولا يكون فيها نص وتأمر هي بتنفيذ الأحكام المختارة بعد موافقة مجلس الشورى مما يستنبطونه ويلزم الناس باتباع الحكم الذي تأمر بتنفيذه.

10 ـ المركزية: وهي أشراف المركز العام للدولة واجبة في الحكم لوقاية أجزاء الدولة من التجزئة، واللامركزية واجبة في الإدارة حتى تعالج المشاكل الجزئية بسرعة من قبل مباشري الإدارة.

11 ـ الأقاليم والولايات في الدولة واحدة، ولأهلها سائر الحقوق التي لأهل المركز العام.

ـ(375)ـ

12 ـ الجماعة التي تحكم حسب النظام الإسلامي واحدة، بغض النظر عن طائفتها وجنسها.

13 ـ علاقة الحكام بالمحكومين قائمة على أساسين: أحدهما العدل من الحكام، والطاعة من المحكومين والثاني الشورى بين الحاكم والمحكوم.

14 ـ وظيفة الدولة الأساسية هي تنفيذ الإسلام في الداخل، وحمل الدعوة إلى الخارج:

1 ـ تنفيذ التشريع وتحقيق سيادة الشرع وإيجاد التوجيه في الداخل.

2 ـ حماية الحقوق الطبيعية، ومنها تعميم التعليم ورفع مستواه والضمانات الصحية.

3 ـ تنفيذ النظام الاقتصادي.

4 ـ تحقيق النظام: الأمن الداخلي وحماية ثغور الدولة الخارجية.

3 ـ العلاقة بين النظرية الكونية والقيم السلوكية

قال الإمام الخميني: من الأمور التي لا يشكك فيها أي باحث عن الإسلام. ان العلاقة بين النظرة الكونية والقيم السلوكية تنطوي على تصور كامل للكون والحياة والإنسان وعلى منهج شامل لنواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

هذه الحقيقة أدركها المستعمرون جيدا وفهموا أنهم لا يستطيعون فرض سيطرتهم ومناهجهم على الأمة مع مثل هذا الدين. الذي يربط السلوك بالعقيدة، التي هي أفكار الإسلام ومفاهيم، وهي ضوابط لسلوك الإنسان في الحياة. بأحكام شرعية لمعالجة أعمال الإنسان وتعيينا لكيفية سلوكه.

لذا كان لزاما على المسلم أدراك ان نصوص الشريعة قد جاءت للعمل بها وجاءت

ـ(376)ـ

خاضعة بسلوكه في الحياة، أي يجب على المسلم أدراك ان الإسلام جاء بمفاهيمه لضبط سلوكه في الحياة فيأخذ كل فكرة قانونا لضبط سلوكه ضمن هذا القانون فتظهر فيه الناحية العملية لا التعليمية. فيفقد بذلك حرارة الحياة الموجودة فيه ويفقد كونه مبدأ كاملا شاملا أي عقيدة ينبثق عنها نظام متكامل شامل.

ومن هنا كانت معرفة الأفكار الإسلامية والأحكام الشرعية دون ملاحظة اعتبارها ضوابط للسلوك الإنساني هي الآفة التي لم تجعل للأفكار والأحكام أثرا في سلوك الكثيرين.

ولقد حرص الإسلام على تكوين الشخصية الإسلامية بالعقيدة فيها تتكون عقليته ونفسيته. فالعقلية الإسلامية هي التي تفكر على أساس الإسلام، أي تجعل الإسلام وحدة المقياس العام للأفكار عن الحياة، والنفسية الإسلامية هي التي تجعل ميولها كلها على أساس الإسلام، أي تجعله وحدة المقياس العام للاشباعات جميعها. وكما أمر الإسلام بالاستزادة من الثقافة الإسلامية لتنميتها حتى تصبح قادرة على قياس كل فكر من الأفكار، فكذلك أمر بالواجبات والأكثار من المندوبات والمستحبات، ونهى عن المحرمات والمكروهات والشبهات لتقوى هذه النفسية وتصبح قادرة على ردع كل ميل يخالف الإسلام، وكل ذلك لترقية هذه الشخصية بالقيم السلوكية، لتنال رضوان الله في الدنيا والآخرة بتسيير ميولها حسب أوامر الله ونواهيه.

وبذلك يحدث ارتباط بين العقلية والنفسية الإسلامية وتصبح الشخصية الإسلامية متميزة، عقليتها ونفسيتها من جنس واحد، تستندان إلى قاعدة أساسية واحدة هي العقيدة التي ربط الله بينها وبين العمل فقال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ وربط النبي بين العقيدة والسلوك فقال: لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به.

ـ(377)ـ

أ ـ نظرة الإسلام للإنسان:

رعى الإسلام الإنسان رعاية فائقة. باعتباره جزءا من المجتمع لم يسبقه بهذه الرعاية دين، ولن يلحقه مبدأ حتى قيام الساعة فالنبي بين هذه الجزئية بيانا شافيا في حديثه فقال: مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذ استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو انا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فان تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وان أخذوا على أيديهم نجوا جميعاً.

ثم أوضح عليه السلام جزئية الفرد من الأمة فشبّه الأمة بالجسد الواحد فكان الفرد جزءا غير منفصل عنها، هو جزء منها فالأمة تعمل للمحافظة على الفرد، والفرد يعمل لمصلحة الأمة لقول النبي: مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى لـه سائر الجسد بالسهر والحمى.

لذلك كان الإسلام يرعى شؤون الأفراد والجماعات باعتبارهم أمة واحدة رعاية تضمن لهم الاطمئنان والسعادة وتوفر لهم الاستقرار والرفاهية في الحياة.

ب ـ نظرة الإسلام للحياة:

ان الإنسان أرقى عناصر الوجود فحياته أرقى نماذج الحياة وأرقى نماذج الكون من أفلاك وكواكب وسماوات وأرضين وغيرها.

ولذلك كان بالحس والمنطق أرقى عناصر الوجود. وما يصدق على الإنسان يصدق على الإنسان يصدق على الحياة والكون بالأولى.

وإذا نظرنا إلى هذا الإنسان نجده محدودا لأنه ينمو في كل شيء إلى حد معين. فهو بدأها محدودا ودليل على وجود غير المحدود المختلف عن المحدود قطعا فكان لابد ان يكون غيره. وبما ان المحدود مادة فغير المحدود غير مادة وغير مدرك للمحدود وهو الله.

ـ(378)ـ

وبما ان المحدود لا ينشأ من نفسه، فلابد ان يكون المحدود ناشئا عن غير المحدود ومخلوقا لـه، فكان هذا الوجود مخلوقا لله وحياته محدودة. وعلى ذلك فان وراء الكون والحياة والإنسان خالقها، ومنظمها بنظام علاقاتها وقيمها.

ج ـ نظرة الإسلام للكون:

ان الكون في الإسلام محدود لأنه مجموع أجرام وكل جرم منها محدود ومجموع المحدودات محدود بداهة، فالكون محدود. وعلى ذلك فالإنسان والحياة والكون محدودة قطعا فالنظر إلى أي كوكب في الكون، والتأمل في أي مظهر من مظاهر الحياة وأدراك أي ناحية في الإنسان، ليدل دلالة قطعية على وجود الله.

ولذلك نجد القرآن يلفت النظر إلى الأشياء ويدعو الإنسان إلى النظر إليها وما حولها وما يتعلق بها، ويستدل بذلك على وجود الله في مئات الآيات كقوله تعالى ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ﴾.

وقوله: ﴿أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ _ وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ _ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ _ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾.

وقال: ﴿فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ _ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ _ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ﴾.

﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾.

متى انتهى الإنسان من هذه النظرة الكونية ينتقل إلى الفكر عن الكون والإنسان والحياة وإيجاد القيم والمفاهيم المنتجة عنها. وهو الأساس الذي يقوم عليه المبدأ المتخذ وسيلة للنهوض، وهو الأساس الذي تقوم عليه حضارة، وتنبثق عنه أنظمة

ـ(379)ـ

وتقوم عليه دولة.

4 ـ العلاقة بين الدين والدنيا والدولة:

للإسلام طريقة جعلت المعتنق لـه بحيا حياة خاصة. تدفعه هذه الطريقة للربط بين الدين والدنيا فيبذل جهده لينال أكبر قسط ممكن من متع الحياة المشروعة استجابة لأمر الله في قولـه: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ والمسلم يدرك ان هذه المتع إنّما هي وسيلة للآخرة.

وان شريعة الإسلام تأمر بوجود الحكم والسلطان ففي القرآن الكريم كتاب الإسلام المنزل آيات تدل على ذلك منها قولـه تعالى ﴿فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ﴾.

﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ و﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا ﴾ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾. ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾.

وهناك الآيات الكثيرة الدالة على تفصيلات جوانب الحكم، ومنها التشريع السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وهكذا تجد الخطوط العريضة للأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية واضحة في مئات الآيات وآلاف الأحاديث والكتب الفقهية. كما قال الخميني: ذات علاقة قوية بالسياسة والاقتصاد والاجتماع.

فلو لم يكن في صميم الإسلام بناء دولة فلماذا نزلت هذه الآيات ؟ ومن يطبق ما فيها من الأحكام ؟ وزيادة على ذلك فان الواقع التاريخي في سيرة الرسول وحياة الصحابة أيام حياته ومن بعده يدل دلالة واضحة على ان الإسلام كان نظاما للدولة والحياة.

ـ(380)ـ

وإذا أنكر المنكرون على الإسلام: ان فيه أساسا لبناء دولة تنفذ الأحكام وتسوس الأمة فماذا يقولون عن نصوصه التي هي صريحة في الحكم ؟ وكيف يغمضون أعينهم عما كان يفعل الرسول من إرسال الولاة والمعلمين إلى الأقاليم، ليحكموا بين الناس في أمورهم ويعلموهم دينا فيه العبادة والنظام.

ان الإسلام نظام للدولة والحياة والأُمة ولا تملك الدولة الإسلامية الحكم إلا إذا كانت تسير وفق نظام الإسلام، ولا يقوى وجود الإسلام إلا إذا كان حيا في دولة تنفذ أحكامه، فالإسلام دين عام والدولة جزء منه وهي الوسيلة لتنفيذه والحكم قاعدته.

أ ـ الخلافة اصطلاحا دين ودنيا

ولقد عرفها الفقهاء في الاصطلاح الخاص تعريفات كثيرة، اختلفت في الألفاظ واتفقت في المعاني وعرفها الماورد (1) بأنها «موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به» والخلافة في العرف الخاص: «الزعامة العظمى» وفرق الشيعة بين الخلافة والإقامة في العموم والخصوص، فعرّف آل ياسين (2) الإمامة بأنها: «رئاسة دينية ودنيوية والخلافة: رئاسة خاصة بالدنيا والدولة».

ولا داعي لهذه التفرقة لأن المقصود بالخلافة عند السنة هي «خلافة في الدين والدنيا عند الماوردي» وهي «الولاية العامة على شؤون المسلمين من دينية ودنيوية» (3).

يتبين لنا من التعاريف الاصطلاحية للخلافة اتفاق الفقهاء على معنى الخلافة.

________________________________

1 ـ الماوردي: الأحكام السلطانية ص 5.

2 ـ آل ياسين: الإمامة ص 17.

3 ـ عطية الله: القاموس السياسي ص 505.

ـ(381)ـ

وهذه التعاريف تقدم الدين وكلها تربط بين الدين والدنيا عنصريين أساسيين من عناصرها وتتفق في العنصر الثالث وهو أنها: خلافة عن النبي في أمته لحفظ الدين وسياسة الدنيا به. فهي نيابة عنه في تنفيذ اوامر الله وامضاء أحكامه، فالسيادة للدين على الدنيا عند الماوردي وابن خلدون (1) الذي يرى ان السياسة الدينية هي المثلى العائدة بالخير والمؤدية للسعادة في الدنيا والآخرة.

ولذلك تخضع الدنيا لسياسة الدين وتوافقه كما يرى الشافعي (2) انه لا سياسة إلا ما وافق الشرع أي سيادة الدين على الدولة والسياسة.

وفي كتابات الفقهاء والمفكرين المسلمين نجد الربط والتلازم بين الدين والدنيا فيرى الماوردي (3): «ان الدين محروس بسلطانه، فإذا فصل الدين وزال السلطان بدلت أحكام الدين». ويرى الغزالي (4) «ان نظام الدين لا يحصل إلا بنظام الدنيا. لحديث ابن عباس قال: «الدين والسلطان أخوان توأمان، لا يصلح أحدهما إلا بالآخر، فالدين أس والسلطان حارس، وما لا أس لـه فمهدوم وما لا حارس لـه فضائع».

ان تحليل هذه الآراء يدل على إجماع الفقهاء على ان الإسلام دين ودنيا وجملة القول: في تعريف الإسلام عند شاخت (5) «انه نظام كامل من الحضارة يشمل الدين والدولة معا».

________________________________

1 ـ ابن خلدون: المقدمة ص 195.

2 ـ الصالح: النظم الإسلامية ص 254.

3 ـ الماوردي: أدب الدنيا والدين ص 115.

4 ـ الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد ص 135.

5 ـ شاخت: تراث الإسلام ص 9.

ـ(382)ـ

ب ـ الخلافة مفهوما: دين ودولة

تبين لنا من تعريف الخلافة اصطلاحا مفهوم السنة الخاص للخلافة الذي يختلف عن مفهوم الشيعة العام. الذي يعرفها بأنها «إمامة دينية ودنيوية وخلافة عامة عن الله» (1) كما عرفها مفكروهم بأنها هي «الرئاسة العامة الإلهية خلافة عن الرسول في أمور الدين والدنيا (2) فهي جزء متمم للرسالة عندهم منحته البشرية ـ ممثلة بآدم ـ وهي مكلفة رعاية الكون وتدير أمر الإنسان والسير بالبشرية للخلافة الربانية، هذا هو مفهوم الشيعة الأساسي عن الخلافة وهو يختلف عن مفهوم السنة الذين يرون: أنها منصب ديني ودنيوي للبشر للحكم بالإسلام وسياسة الدنيا به ينشره، لان الخلافة الشرعية الخاصة عندهم هي التي تقود للخلافة الكونية العامة بعكس مفهوم الشيعة العام الذي يقود إلى الخلافة الخاصة. والنتيجة: ان الخلافة بمفهوم الإسلام أصيلة عند ضناوي (3) وعلى ضوئها يفسر الإسلام دور الإنسان في الوجود «الكون والإنسان والحياة». لأنه خليفة مستناب مستخلف لأداء الأمانة وهي: منهج الله في الحياة في مختلف شؤونها: السياسية والاقتصادية والاجتماعية لتحقيق غاية وهي: تحقيق عبودية الإنسان لله في جميع نواحي الحياة، وأداء وظيفة الخلافة الشرعية وأهميتها بالنسبة للحياة البشرية والخلافة بهذا المفهوم تحتاج إلى سلطة تشرف على تنفيذ متطلباتها، والقيام بأعبائها.

وأمل الفصل بين الدنيا والآخرة. وبين الدين والدولة فلم يعرفه الإسلام والمسلمون ولم يقل به أحد منهم بفكرة فصل الدين عن الدولة التي هي من تقليد الفكر الغربي اقتبسها العرب والمسلمون منه وصاروا يرددون هذه الفكرة الحديثة الغربية التي

________________________________

1 ـ آل ياسين: الإمامة ص 18.

2 ـ الصدر: الخلافة ص 21.

3 ـ ضناوي: الطريق إلى حكم إسلامي ص 26.

ـ(383)ـ

غزتهم بالدعوة إليها في كتاباتهم ومنهم: المعلوف (1) «الذي يرى ان فصل الدين عن الدنيا أمر واجب لتقدم الشرق ودخول دائرة المدينة والتمتع بالحرية » وهذه رؤية غربية تناقض الحقيقة التاريخية والواقع الذي عرفه المسلمون.

ويرى الشيخ علي عبد الرزاق (2) «ان الإسلام دين لا دولة، ويفصل بين الدين والسياسة » وهذه رؤية غير إسلامية ينقصها الإسلام والمسلمون ومنه شيخ الأزهر: الخضر (3) حسين الذي يرى «ان فصل الدين عن السياسة هدم لمعظم حقائق الدين ولا يقدم عليه المسلمون إلا بعد ان يكونوا غير مسلمين» ويرى شيخ الإسلام صبري (4) «انه يفقدنا الخلافة أضعنا الدين والدنيا». وعقيدة فصل الدين عن الدولة: «هي تعطيل لآيات الحكم والسلطان وآيات العقوبات والمعاملات وإيمان بآيات العبادات إذ هي فصل الآيات التي هي قوام الدولة والمجتمع عن الدولة وإلغاؤها لقولـه تعالى: ﴿ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾.

والذي يعتبر ان نظام الإسلام غير صالح لقيام دولة عصرية هو أما إنسان جاهل وأما كافر مرتد عن الإسلام. ولهذا ننبه المسلمين حكاما ومحكومين إلى ما هم في غفلة عنه ومما قد عم بلاؤه وغلب إفتائه على الإسلام ألا وهو: أعناق آلاف الشباب لهذه العقيدة أما عن جهل بأنها كفر وأما عن اعتقاد بها وكفر صريح بالإسلام.

فيجب إنقاذ هؤلاء الشباب من حمأة الكفر التي تردوا بها. أما الذين اعتنقوها عن علم كالحكام والعلماء والمتعلمين اعتقاداً بها وكفرا بالإسلام دولة فهؤلاء أعداء 

________________________________

1 ـ المعلوف: تركيا الجديد ص 24.

2 ـ حبيب: فصل الدين عن الدولة ص 49.

3 ـ عبد الرزاق: الإسلام وأصول الحكم ص 135.

4 ـ صبري: الرد على منكري الخلافة والدين 89.

ـ(384)ـ

للإسلام. فواجب المسلمين: الأخذ على أيدي هؤلاء وحفظ الدين وأبنائهم من هذه العقيدة الضالة المضلة فإنها أصبحت أخطر عقائد الكفر على المسلمين وصدق الرسول بتحذيره لنا منها بقوله:

«لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فأولهن نقضا الحكم وآخرهن الصلاة».

ونتيجة تحليل هذه الأقوال الحقة هي حقيقة ان الإسلام دين ودولة باجتماع الفقهاء والمفكرين المسلمين على القول بهذه الفكرة، فجميع كتب الفقه والسياسة تجمع بين الدين والدنيا واقعا مسلما به ليس بموضوع جدل ولا نقاش لأن الإسلام يختلف عن سائر الأديان والنظم. فلا يصح قياسه بسائر النظم الموضوعة أو نقارنه ونشبهه بها، فلا هو ملكي ولا جمهوري ولا دستوري ولا نيابي ولا شيوعي ولا اشتراكي ولا ديمقراطي رأسمالي، أي انه لاشيء من ذلك، بل هو نظام خاص متميز فريد أسمه الإسلام والخلافة فيجب دراسته على هذا الأساس، والذين حاولوا مقارنته بغيره وتشبيهه بنظام معين معروف قالوا: انه ديمقراطي فكتبوا الديمقراطية في الإسلام، أو اشتراكي فكتبوا عن الاشتراكية في الإسلام وماشاكل ذلك، كلهم مخطئون والخلافة لا تشبه الملكية ولا الجمهورية فالخليفة يمثل الدين والدولة معا. ووجه الإمام الخميني حديثه للشباب فقال: لا تدعوا الناس يتصورون ان الإسلام كالمسيحية. بتنظيم علاقة الفرد بربه.

ـ(385)ـ

الإسلام دين ودولة

أولا: الإسلام الدين والحركة:

أ ـ نقطة الابتداء:

حين بعث النبي دعا زوجته خديجة فآمنت به، ثم دعا ابن عمه علي فآمن به، ودعا صديقه أبا بكر فآمن به ثم صار يدعو الناس ولما أسلم أبو بكر أظهر إسلامه لمن وثق به ودعا إلى الله ورسوله. وكان رجلا مؤلفا لقومه محببا، وكانوا يأتون إليه ويألفون لعمله وحسن مجالسته، فأسلم على يده عثمان، والزبير وابن عوف، وابن أبي وقاص، وطلحة، وجاء بهم إلى النبي حين استجابوا لـه فأسوا وصلوا، ثم أسلم أبو عبيدة وأبو سلمة والأرقم وغيرهم ثم دخل الناس في الإسلام إرسالا من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدث الناس به.

وكان النبي يطوف على الناس في أول أمره في منازلهم، ويقول: ان الله يأمركم ان تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وكان يتصل بالناس يعرض عليهم دينه وينظمهم حوله على أساس هذا الدين سرا، وكان أصحاب النبي إذا صلوا ذهبوا في الشعاب واستخفوا بصلاتهم من قومهم.

وكان النبي يرسل لمن يدخل في الإسلام جديدا من يعلمه الإسلام والقرآن ممن اسلموا من قبل، فقد أرسل خباب يعلم زينب بنت الخطاب وزوجها سعيدا القرآن، وأسلم عمر على يد هذه الحقة. ولم يكتنف النبي بذلك بل اتخذ لـه دار الأرقم يعلم فيها المسلمين الإسلام ويجعلها مركزا لهذه الكتلة المؤمنة، ومدرسة لهذه الدعوة الجدية فقد كان فيها يجمع المسلمين يقرئهم القرآن، ويبينه لهم ويأمرهم باستظهاره وفهمه ومكث ثلاث سنين يثقف المسلمين ويصلي بهم ويتجهد ليلا، فيبعث فيهم

ـ(386)ـ

الروحانية بالصلاة والتلاوة، ويثير فيهم الفكر بالتأمل في آيات الله والتدبر في مخلوقاته، ويثقف عقولهم بمعاني القرآن وألفاظه، ومفاهيم الإسلام وأفكاره، ويأخذهم بالصبر على الاذى ويروضهم على الطاعة والانقياد، حتى خلصوا لله..

ب ـ تنظيم الصحابة:

كان النبي في أول أمره يدعو من آنس فيه الاستعداد لقبول هذه الدعوة بغض النظر عن جنسه واصله، وكان يدعو جميع الناس ويتحرى استعدادهم للقبول، وقد اسلم كثير منهم وكان يحرص على تثقيف جميع الذين يعتنقون الإسلام بأحكام الدين ويحفظهم القرآن فتكتل هؤلاء وحملوا هم الدعوة، وقد بلغ عددهم أربعين شخصا ما بين رجل وامرأة من مختلف البيئات والأعمار أكثرهم من الشباب فيهم الغني والفقير. وقد آمن به ولازمه ودأب على الدعوة معه كل من: علي والزبير وطلحة والأرقم وابن مسعود وسعيد بن زيد وسعد ابن أبي وقاص وسعود بن ربيعة وجعفر وصهيب الرومي وزيد بن حارثة وعثمان بن عفان وطليب وخباب وعامر بن فهيرة ومصعب بن عمير والمقداد وعبد الله بن جحش وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة وعتبة بن غزوان وأبو حذيفة وبلال الحبشي وعياش بن ربيعة وعامر بن ربيعة ونعيم بن عبد الله وعثمان بن مظعون وعبد الله وقدامة والسائب أبناء مظعون وأبو سلمة وابن عوف وعمار وأبو بكر وحمزة وعبيدة بن الحارث. كما آمن عدد من النساء ولما نضج هؤلاء الصحابة في ثقافتهم وتكونت عقليتهم الإسلامية وأصبحت نفسيتهم إسلامية في مدة ثلاث سنوات اطمأن النبي عليهم ورأى أدراكم لصلتهم بالله بارزة آثارهم على أعمالهم إذ صارت كتلة المسلمين قوية قادرة على مجابهة المجتمع كله.

ـ(287)ـ

ج ـ انطلاق الدعوة: التفاعل والكفاح:

كان أمر الدعوة الإسلامية ظاهرا من أول يوم بعث به النبي وكان الناس في مكة يعرفون ان محمدا يدعو لدين جديد ويعرفون انه ينظم أصحابه ويعرفون ان المسلمين يستخفون عن الناس في تنظيمهم وفي اعتناقهم الدين الجديد وكانت هذه المعرفة تشعر ان الناس كانوا يحسون بالدعوة الجديدة، ويحسون بوجود مؤمنين بها، وان كانوا لا يعرفون أين يجتمعون ومن هم هؤلاء الذين يجتمعون ولذلك لم يكن إعلان النبي للإسلام شيئاً جديدا على كفار مكة وإنّما كان الشيء الجديد ظهور هذه الكتلة المؤمنة للناس فقد اسلم حمزة ثم أسلم عمر فاشتد ساعد المسلمين ونزل على النبي قولـه تعالى ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ فصدع النبي بأمر الله وأظهر أمر التنظيم علنا للناس جميعا. وكان أسلوب إظهار النبي لأمر هذا التنظيم انه خرج في أصحابه بصفين كان على رأس أحدهما: حمزة وعلى رأس الثاني: عمر، وذهب بهم النبي إلى الكعبة في نظام دقيق لم تعهده العرب من قبل فطاف بهم الكعبة، وانتقل النبي بذلك في أصحابه من دور الاستخفاء إلى دور الإعلان، ومن دور الاتصال بمن يأنس فيهم الاستعداد إلى دور مخاطبة الناس جميعا، فبدأ الاصطدام بين الإيمان والكفر في المجتمع وبدأ الاحتكاك بين الأفكار الصحيحة والفاسدة، وبدأت المرحلة الثانية وهي مرحلة التفاعل والكفاح.

وبدأ الكفار يقاومون الدعوة ويؤذون النبي وأصحابه بجميع أنواع الأذى، وهذه الفترة هي أشد ما عرف روعة في العصور جميعها، فلا يزيد النبي ذلك كله إلا صبرا وإمعانا في الدعوة، وكان المسلمون يهددون ويؤذون، فقد وثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يعذبونهم، ويفتنونهم عن دينهم، وكان المسلمون بالجملة يضربون وتوجه إليهم أشد صور المهانة فكانوا يصبرون على كل ذلك ابتغاء رضوان الله.

د ـ مقاومة الدعوة:

حين بعث النبي بالإسلام تحدث الناس عنه وعن دعوته، وكانت قريش اقلهم حديثا، لأنهم لم يعنوا به أول أمره وظنوا ان حديثه لن يزيد عن حديث الرهبان والحكماء، ولذلك لم ينفروا منه ولم ينكروا عليه واستمر على ذلك إلا انهم بعد ان مضت مدة قصيرة على دعوته وبدأوا يحسون بخطورة هذه الدعوة أجمعوا على خلافة وعداوته ومحاربته، بالحط من شأنه وبتكذيبه، ثم تقدموا إليه يسألونه عن معجزاته التي يثبت بها رسالته، وهكذا صاروا يهاجمون النبي ودعوته بأسلوب تهكمي لاذع، ولكن ذلك لم يثنه عن دعوته بل استمر يدعو الناس إلى الإسلام ويذكر الأصنام ويعيبها ويطعن عليها ويسفه عقول عبدتها، فعظم الأمر عليهم واستعملوا جميع الوسائل لإرجاعه عن دعوته فلم يفلحوا وكان من أهم الوسائل التي اتخذوها لمقاومة هذه الدعوة وسائل ثلاثة:

1 ـ التعذيب للرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.

2 ـ الدعاية الداخلية والخارجية ضد الإسلام والمسلمين.

3 ـ المقاطعة.

اما التعذيب فقد كان يقع على النبي وعلى إتباعه المسلمين جميعا، وقد تفننوا في ايقاع الأذى واستعملوا جميع صنوفه، فما زادهم ذلك إلا ثباتا وإيمانا، وهكذا استمرت قريش في تعذيب النبي وأصحابه. ولما رأت قريش ان ذلك لم يفدها لجأت إلى سلاح آخر هو: سلاح الدعاية ضد الإسلام والمسلمين في كل مكان، واستعملت الدعاية بكل نواحيها، ضد العقيدة الإسلامية وصاحبها، واتهامه فيها واتهامها لذاتها، وأخذوا يكذبون على الرسول ولكن هذه الدعاية لم تنفع ولم تحل بين الناس وبين دعوة الإسلام.

ـ(389)ـ

وكانت قريش تشيع الأحاديث بين الناس ان ما يقوله محمد إنّما يعلمه إياه غلام نصراني، وانه ليس من عند الله، وروجت هذه الشائعة كثيرا حتى رد الله عليهم فقال: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾.

وهكذا استمرت دعاية قريش داخل الجزيرة العربية وخارجها في الحبشة، ولكن النجاشي سأل المسلمين ما هذا الدين ؟ وهل معكم مما جاء به رسولكم عن الله فقرأ عليه جعفر من سورة مريم من أولها فلما سمع البطارقة هذه قالوا: هذه كلمات تصدر من النبع الذي صدرت منه كلمات المسيح، وقال النجاشي ان هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة. فقال لجعفر ما تقوله في عيسى ؟ فقال جعفر: نقول فيه الذي جاء به نبينا، يقول: ليس بين دينكم وديننا أكثر من هذا الخط. وهكذا أخفقت جميع أساليب الدعاية وكانت قوة الحق الذي يدعو إليه الرسول عليه الصلاة والسلام في الصورة الواضحة التي تتجلى على لسانه تعلو على جميع الدعايات وكان نور الإسلام حين يشرق يبدد جميع الإشاعات والدعايات.

فلجأت قريش إلى سلاح ثالث وهو سلاح: المقاطعة، واتفقوا جميعهم على مقاطعة الرسول وأقاربه من بني هاشم وعبد المطلب مقاطعة تامة اقتصادية واجتماعية.

واعتقدوا ان سياسة المقاطعة ستكون افعل أثرا من التعذيب والدعاية. وأقاموا على هذا الحصار ثلاث سنين، وكانوا ينتظرون ان يترك المسلمون إسلامهم إلا ان ذلك لم يزدهم إلا اعتصاما بحبل الله جميعا وتمسكا بدين الله، وحماسة في سبيل الدعوة إلى الإسلام، ولم يزد الذين آمنوا إلا صلابة وقوة ولم يحل دون انتشار الدعوة إلى الإسلام في مكة وخارجها وصار ذكر الإسلام يفشو في الجزيرة.

إلا ان المقاطعة استمرت والتجويع ظل سار على المسلمين يعانون من آلام الجوع

ـ(390)ـ

والحرمان وألوان الفاقة والعوز النبي وأهله ولكنه استمر على دعوته، حتى ازداد عدد المسلمين وهكذا أخفقت وسائل قريش في التعذيب والدعاية والمقاطعة، ولم تستطع ان تفتن المسلمين عن دينهم ولا ان ترجع النبي عن دعوته حتى أظهرها الله رغم الصعاب والعقبات.

هـ ـ تفاعل الدعوة:

كان اصطدام قريش بالدعوة الإسلامية أمرا طبيعيا، لان النبي حمل الدعوة وأظهر التنظيم متحديا،  وفوق ذلك فقد كانت هذه الدعوة بذاتها تتضمن: كفاح قريش والمجتمع في مكة لأنها كانت تدعو لتوحيد الله وعبادته وحده والإقلاع عن النظام الفاسد الذي يعيشون عليه فاصطدمت بقريش اصطداما كليا بتسفيه احلامهم وتحقير آلهتهم والتنديد بحياتهم الرخيصة، والنعي على وسائل عيشهم الظالمة، ينزل القرآن فيها جمهم ويقول لهم بصراحة:

﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾ ثم يهاجم الربا الذي يعيشون عليه مهاجمة عنيفة من أصوله فقال: ﴿وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ _ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ﴾ وبهذا اخذوا يقفون في وجهه، ويؤذون النبي وأصحابه بالتعذيب تارة والمقاطعة تارة أخرى وبالدعاية ضده وضد دينه، غير انه يهاجمهم واستمر على كفاح الآراء الخاطئة وهدم العقائد الفاسدة والمجاهدة في سبيل نشر الدعوة.

وكان يدعو للإسلام بكل صراحة لا يلين ولا يستكين ولا يحابي ولا يداهن رغم ما لاقاه من قريش من صنوف الأذى ومع انه فرد اعزل لا معين لـه ولا نصير ولا سلاح فانه جاء سافرا متحديا، يدعو لدين الله بقوة وإيمان فكان لذلك كله الأثر في التغلب على الصعوبات التي كانت تضعها قريش في وجهه لتحول بينه وبين الناس. وقد استطاع النبي الوصول إلى الناس وتبليغهم فأقبلوا على دين الله وأخذت قوة الحق

ـ(391)ـ

تعلو على الباطل وأخذ نور الإسلام يزداد كل يوم انتشارا بين العرب، فأسلم الكثير من عباد الأصنام ومن النصارى، وبذلك ازداد أمر النبي ظهورا وازداد شوق الناس لسماع القرآن.

وهكذا سرت الدعوة في كل مكان رغم ما تضعه قريش في وجهها من عقبات فزدات من أذى الصحابة والنبي فخرج إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصرة والمنعة ويرجو إسلامهم، لكنهم ردوه بشر جواب، بالسب والضرب حتى أدميت قدماه، ثم عاد إلى مكة، فازدادت أذى لـه، فانصرف عنه أهل مكة، فلم يصرفه ذلك عن الدعوة، وجعل يعرض نفسه في المواسم على قبائل العرب يدعوهم إلى الإسلام، وهكذا أعرضت مكة عن الإسلام وأعرض أهل الطائف عن النبي وردت القبائل دعوة الإسلام، فازدادت أعراضا عنه وزاد ذلك النبي عزلة عن الناس وصارت الدعوة صعبة في مكة.

و ـ أدوار الدعوة:

مرت الدعوة بدورين من أدوارها حيث سار النبي في مكة في دورين متتالين هما:

أولهما: دور التعليم والتثقيف والأعداد الفكري والروحي.

وثانيهما: دور نشر الدعوة والكفاح.

فالدور الأول: دور فهم الأفكار وتجسيدها في أشخاص وتنظيمهم حولها.

والدور الثاني: دور نقل هذه الأفكار إلى قوة دافعة في المجتمع تدفعه لأن يطبقها في الحياة. لأن الأفكار تبقى مجرد معلومات مادامت لم تطبق فهي مخزونة في مكان في الكتب أوفي الأدمغة، ولذلك لا قيمة للأفكار إذا لم تنتقل إلى تطبيق لها في الحياة.

والأفكار لكي تطبق لابد ان تمر بدور تحويلها من فكر إلى قوة دافعة في الناس، فتؤمن بها الجماهير وتفهمها وتحملها، وتكافح في سبيل تطبيقها، وحينئذ يصبح تطبيقها أمرا

ـ(392)ـ

حتميا ونتيجة طبيعية. وهكذا سار النبي بالدعوة في مكة في هذين الدورين:

أما الدور الأول: فهو دور دعوة الناس للإسلام وتثقيفهم بأفكاره وتلقينهم أحكامه، وتنظيم من يستطيع التنظيم على أساس العقيدة الإسلامية وهذا الدور هو دور التنظيم السرّي في الدعوة وذلك ان النبي كان لا يفتر عن الدعوة ويدأب على تثقيف من يدخلون في الإسلام بالأفكار. ويجمعهم في دار الأرقم، ويرسل من يثقفهم كتلة في حلقات فيجتمع المسلمون في بيوتهم سراً، ويتكتلون، ويزداد كل يوم إيمانهم وصلاتهم ببعضهم ويزداد كل يوم ادراكهم لحقيقة المهمة التي يحملونها فيستعدون للتضحية في سبيلها. حتى غرست الدعوة في نفوسهم، وسرى الإسلام فيهم سريان الدم في أجسامهم، فأصبحوا إسلاما يمشي في الطريق، فاخذوا يتحدثون إلى من يثقون بهم، والى من يأنسون منهم استعدادا لقبول الدعوة نقطة الابتداء ومخاطبة الناس جميعا بها، وبذلك انتهى الدور الأول وهو: دور التنظيم السري والتثقيف الذي يبني هذا التنظيم، وصار لابد من الانتقال إلى الدور الثاني: التفاعل والكفاح.

ثانيا: الإسلام الدولة

مقدمة:

لم يع الجيل الحاضر على الدولة الإسلامية المطبقة للإسلام فان من أصعب ما يجد المسلم تقريب صورة الحكم الإسلامي إلى أذهان يسيطر عليها الواقع، ولا يستطيع تصور الحكم إلا في مقياس ما نرى من الأنظمة الديمقراطية الفاسدة المفروضة على البلاد الإسلامية.

ـ(393)ـ

والصعوبة في تحويل هذه الأذهان المطبوعة بالثقافة الغربية، كسلاح شهره الغرب في وجه الإسلام، طعن فيه المسلمين وقال لهم مفتخرا: لقد قتلت أمكم العجوز العثمانية، ومدوا أيديهم يصافحون القاتل، وما يزال سلاحه هذا مخضبا بدماء أمهم، كفعل الضبع، فمن لي بأصحاب هذه الأفكار التي يحملونها من القومية وفصل الدين عن الدولة ومن آراء تطعن بالإسلام هي بعض السموم التي حملتها لهم الثقافة التبشيرية، بقصد محو الإسلام، مع الغزو التبشيري. لقد غفل المسلمون عن خطر هذه الثقافة، وصاروا يحاربون المستعمر ويتناولون من ثقافتهم، مع أنها هي سبب استعمارهم وبها يتركز الاستعمار في بلادهم ولينظروا بعد هذا كم يكون منظرهم متناقضا ومضحكا معا، وهم يديرون ظهورهم للأجنبي يدعون محاربته ويمدون إليه أيديهم من خلف ليتناولوا بكلتا يديهم سمومه القاتلة يتجرعونها فيسقطون بين يديه هلكي يحسبهم الجاهل شهداء نزال، وماهم إلا صرعي غفلة وضلال.

ماذا يريدون ؟ يريدون دولة على غير أساس الإسلام ؟ أم يريدون دولا كثيرة ليتم خطته في أبعاد الإسلام عن الحكم، لقد أعطاهم الغرب منذ صار الأمر إليه دولا كثيرة، بتقسيم بلاد المسلمين إلى 45 دولة وفي تخذيرهم بالتافه من السلطان.

ان الأمر ليس في قيام دول وإنّما هو في قيام دولة واحدة عالمية في العالم الإسلامي كله، وان الأمر ليس في قيام دولة تسمى إسلامية وتحكم بغير ما انزل الله بل في قيام دولة إسلامية تحكم بالقوانين الإسلامية عن عقيدة وتطبق الإسلام في المجتمع وتحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم كما حملتها الدولة الأولى.

ليست الدولة الإسلامية خيالا يداعب الأحلام، فهي حقيقة تاريخية تاريخية في الماضي والحاضر والمستقبل، وهي أمنية الأمة الإسلامية المتعطشة لمجد الإسلام. بل هي

ـ(394)ـ

فرض أوجبه الله على المسلمين، وأمرهم القيام به، وحذرهم عذابه إذا هم قصروا بأدائه.

لذلك كان لزاما على المسلمين ان يقيموا الدولة الإسلامية، لأنه لاوجود للإسلام مؤثرا لـه إلا بالدولة، ولان بلادهم لا تعتبر دار إسلام إلا إذا حكمتها دولة الإسلام. وان طريقها مفروشة بالأشواك محفوفة بالمخاطر، مملوءة بالعقبات والمصاعب، وناهيك بالثقافة غير الإسلامية صعوبة، وبالتفكير السطحي عقوبة، وبالحكومات الخاضعة للغرب خطورة.

ان الذين يسلكون طريق الدعوة الإسلامية لإيجاد الدولة الإسلامية، إنّما يعملون لحكم الإسلام وطريقة استئناف الحياة الإسلامية في البلاد الإسلامية، وحمل الدعوة إلى العالم. وان دراسة الدولة الإسلامية لا يقصد به تاريخ الدولة الإسلامية وإنّما يقصد به مشاهدة الناس كيف أقام النبي الدولة وكيف هدم المستعمر الدولة الإسلامية وكيف يقيم المسلمين الدولة الإسلامية، ليعود للعالم النور الذي يضيء لـه طريق الهدى في حالك الظلمات.

مفهوم الدولة بين الإسلام وغيره:

1 ـ تعريف الدولة: هي مجموع الأرض والشعب والحكم.

2 ـ تعريف الدولة الرأسمالية الغربية: ضمان الحريات الأربع: حرية الرأي، حرية الملك، حرية العقيدة، الحرية الشخصية.

3 ـ تعريف الدولة الاشتراكية الشرقية: هي قوة مطلقة التصرف، وغاية يسعى إليها وهي تتولى عن الجماعة والأفراد جميع شؤونهم ووسائلهم.

4 ـ تعريف الدولة الإسلامية: هي مقيدة التصرف في الشرع، وهي طريقة لتنفيذه وهي تتولى عن الجماعة شؤونها ووسائلها.

ـ(395)ـ

مفهوم الدولة الإسلامية: دولة بشرية وليست دولة أهلية أو حكومة دينية كالحكومات الغربية والشرفية التي قامت في أوروبا في القرون الوسطى والتي كانت حائلا بين المجتمع والتقدم المادي. وكانت تستخدم القوة في الحجر على العقول والأفكار فكانت محاكم التفتيش وبيوت النيران والقتل والصلب جزاء لكل من يفكر ويستعمل عقله ولكل من يحاول السير بالإنسان إلى الأمام ماديا.

وقد أدى رجال الدين والكهنة بهذه الفلسفة واتخذوا من قول «اعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله » تفسيرا يبررلهم الرضا بهذه الفلسفة الرأسمالية والاشتراكية والخضوع للمبادئ التي قامت عليها تلك الثورات الرأسمالية والاشتراكية.

وطبيعي ان تكون الدولة الدينية بالمفهوم الروحي حسب المفهوم الغربي رجعية حائلة دون تقدم المجتمع لأن الفلسفة التي كانت قتوم عليها هذه الدولة الدينية هي الكهانة وكان مفهوم الروح عندهم أنها مقابل المادة. وبناء على هذه الفلسفة أو هذا المفهوم لمعنى الروح تمسك الكهنة بالسلطان والحكم حتى نزع منهم بالقوة والثورة واجبروا على إعطاء تفسيرات دينية تبرر شرعية نزع الحكم منهم وتؤكد وجوبه.

وقد كان لفصل المادة عن الروح وفصل الدين الروحي عن الدولة أثر كبير في تقدم الحياة ماديا عند الغرب لأنه جاء نتيجة نزع السلطان من يد الكهنة ورجال الدين وكانت ثمرات ذلك الثورة الصناعية في أوروبا والتقدم الفكري عند الغربيين والشرقيين مما أوجد الإبداع والاختراع وتقدم العلم والمدنية. فتركزت في أذهان الغرب والشرق القيادة الفكرية والرأسمالية والاشتراكية التي هي فصل الدين عن الدولة وأخذوا يحملونها للعالم.

ـ(396)ـ

وكان من جراء هذه الثقافة الغربية والشرقية ان تركز في أذهان المسلمين قياس حال مجتمعهم وواقعهم ودينهم على المجتمع الأوروبي الغربي والشعوب الأوروبية الشرقية والغربية والدين النصراني قياسا شموليا مغلوطا لمجرد الاشتراك في ألفاظ الأسماء، ولذلك قاموا ينادون بفصل الدين عن الدولة وبأن الدولة الإسلامية رجعية، على اعتبار أنها دولة دينية روحية تتمثل فيها الكهانة التي تحول دون التقدم والعلم.

والحقيقة ان هناك فرقا بين الدولة الدينية الروحية والدولة الإسلامية وانه لا يوجد أي تشابه بينهما مطلقا، بل بينهما التناقض، وذلك لأن الدولة الدينية الروحية دولة إلهية مقدسة تستمد سلطتها من الله ولا يجوز لأحد محاسبتها، بخلاف الدولة الإسلامية فإنها ليست اليهة ولا مقدسة وتستمد سلطتها من الأمة، وسيادتها من الشرع فهي منفذة للشرع وليست حاكما مقدسا. وأوامر الدولة الإسلامية أحكام شرعية تتبناها من الفقه الإسلامي وهي آراء وأفكار وأحكام إسلامية تقبل المناقشة.

ومن هنا لم يكن في الإسلام شيء يسمى الدين وشيء يسمى الدنيا ولا حاجة إلى ما يسمى رجال دين، بل كانت ضرورة الحياة المادية تقضي بمحاربة وجود الكهانة ورجال الدين بين الناس ن لأن الروح أدراك عقلي لصلة الإنسان بالله، وهو ملك لجميع بني الإنسان وليس لأحدهم فضل على الآخر فيه إلا بالتقوى.

ومن الطبيعي لم توجد لدى الإسلام دولة دينية روحية بالمفهوم الغربي ولا هي سلطة زمنية، وإنّما هي دولة للحكم على عقيدة ثابتة وقيادة فكرية تنبثق عنها أنظمة الحياة التي تنفذها الدولة.

وهي دولة لها حضارة معينة على طريقتها في الحياة ولها عمل اصلي وجدت من اجله وهو تطبيق الإسلام وحمل دعوته. فهي تقوم على أساس ان الكون والحياة

ـ(397)ـ

والإنسان لها خالق خلقها من عدم، وان هذه الحياة يوجد ما قبلها وهو الله الذي خلقها ويوجد ما بعدها وهو يوم القيامة، وان هذه الحياة متصلة بما قبلها وبما بعدها. لان صلتها بما قبلها هي اوامر الله ونواهيه التي تعين للإنسان طريقته التي يسير عليها في الحياة ويعيش حسبها، وصلتها بما بعدها هي تصور الحساب على كل عمل يقوم به الإنسان في هذه الحياة يحاسبه عليه الله يوم القيامة وحياة الإنسان في هذا الكون مقيدة بهذه الصلة الحياة بما قبلها وبما بعدها.

فالاساس الذي تقوم عليه الدولة هو عقيدتها وهي قيادة فكرية يجب على الدولة حملها للعالم دعوة إسلامية. وعلى ذلك فأساس الدولة الإسلامية الذي تقوم عليها هو تعيين موقف الإنسان في الحياة من الحياة نفسها فيقيد اعماله بتلك الصلة التي تربطها بما قبلها وما بعدها.

ومتى تعين الموقف من الحياة للدولة سهل عليها السير لرقي الحياة وتقدمها وإزالة جميع الحواجز الواقفة دون هذا الرقي. ولذلك كانت القيادة الفكرية التي تقوم عليها الدولة الإسلامية العامل الفعال الذي يدفع هذه الدولة في الحياة نحو الرقي المادي المسخر المادة لرقي الإنسان ورفاهيته وسعادته.

وعن هذه العقيدة تنبثق أنظمة الحياة، لأنها تلزم الإنسان في الحياة التقيد بما هو الصلة الوحيدة لهذه الحياة بما قبلها وهي أوامر الله ونواهيه.

وعليه، فإذا الإنسان في الحياة يعالج مشاكله بشريعة لله فقط لأن لها السعادة عليه، فإذا عرضت لـه مشكلة استنبط حكمها من الكتاب والسنة. والدولة هي التي تتبنى هذا الحكم وتنفذه ومن هنا كان تشريع كامل لمعالجة المشاكل الإنسانية كلها في هذه الحياة، وكان هذا التشريع متسعا لاستنباط القواعد الجديدة والمشاكل الجديدة اتساعا يوجد فيه الحل لكل مشكلة مهما تجددت وتعددت على اختلاف الظروف

ـ(298)ـ

والأمكنة، والأزمنة. وعلى ذلك كانت معالجات مشاكل الحياة جميعها لكافة شؤون الإنسان موجودة في التشريع الذي تقوم الدولة على تنفيذه وعلى تبني تشريعه لضمان حل مشاكل الإنسان كلها في الحياة.

وعلى ذلك تكون العقيدة الإسلامية وسيادة الشريعة الإسلامية على أعمال الإنسان وجعل المثل الأعلى هو: رضوان الله غاية الغايات وفوق المادة ـ يكون ذلك طريقة الحياة في الدولة الإسلامية ـ وهو حضارتها: التي هي مجموع المفاهيم عن الحياة وأما العمل الأصلي للدولة ووظيفتها التي وجدت من أجلها فإنها تنفيذ المبدأ عقيدة ونظاما في داخل حدودها وحمل دعوته إلى باقي العالم قيادة فكرية بالدعوة والقوة المادية بالجهاد التي تحمي هذه الدعوة وتزيل الحواجز المادية الواقفة في طريقها بالفتوحات الإسلامية.

هذه هي العناصر الأساسية التي تقوم عليها الدولة الإسلامية وهي المقومات الحقيقية للدولة، وان الطريقة التي تقوم عليها الدولة الإسلامية في الحياة تجعلها سائرة نحو المدنية، لأن مفهومها عن الحياة يجعلها تتقدم نحو الأشياء على أسس ثابتة ويدفعها للأقبال عليها فهي دافعة للتقدم المادي والإبداع فيه.

وهذا مناقض كل المناقضة للدولة الدينية ومفهومها عن الحياة، ولذلك كان الظلم الفادح قياس الدولة الإسلامية بالدولة الدينية ومقارنتها بالتي كانت قائمة في القرون الوسطى قياسا شموليا مغلوطا، وكان من سوء صنيع المسلمين بأنفسهم التأخر عن إقامة الدولة الإسلامية، والوقوف للحيلولة دون قيامها.

ولما كان المجتمع في البلاد الإسلامية ومنها العربية يقوم على أسس تناقض الإسلام، ويحيا حياة غير إسلامية، كان لابد لـه من قيام دولة إسلامية تستأنف الحياة الإسلامية وتحمل الدعوة إلى العالم، بواسطة الدولة العالمية الواحدة التي تطبق

ـ(399)ـ

الإسلام وتحمل دعوته للعالم. التي عليها يتكون جسم الدولة الإسلامية تكوينا طبيعيا حسب سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا. وهي السنة التي تكونت حسبها الدولة الإسلامية من نواتها في المدينة ثم في الحجاز ثم الجزيرة ثم صارت دولة عالمية تشمل أكثر أجزاء العالم.

 

نفي الأخطاء والشبهات

1 ـ التجزئة بين الدولة والدولة:

من أخطر المفاهيم الغربية فكرة فصل الدين عن الدولة، التي أدخلها المستعمر في بلاد المسلمين عن طريق غزوه الثقافي والسياسي ومن أخبث التهم وأكذب الحديث التي روجها هذا الكافر اللئيم، تشبيه خليفة المسلمين بالباب، وان كلمة رجال الدين تحمل مفهوما خطيرا ومعنى فاسدا سقيما وقد استطاع المستعمر وعملاؤه ان يركز عند المصبوغين بثقافته، فأصبحنا نسمعه منهم في كل مناسبة بل وصل الأمر ان رددها بعض علماء المسلمين اليوم، دون أدراك مفهومها وحقيقة معناها.

ان كلمة رجال الدين اصطلاح أجنبي، أطلقه الغربيون على القسس والأساقفة، وصفا لهم وتقريرا لواقعهم، وذلك حينما قامت الثورة الفكرية في أوروبا تطالب بالإصلاح والتحرر من سيطرة الكنيسة ورجالها الأمر الذي أدى إلى بقاء أوروبا قرونا عدة وهي واقعة تحت سيطرة الكنيسة وظلم رجالها، مما أدى إلى التأخر والفساد وشيوع الاضطراب الفكري والمادي.

فرجال الكنيسة كانوا يرون ان الإنسان فيه السمو الروحي والترعة الجسدية، اللذان لا يلتقيان، وان المادة منفصلة عن الروح، ومن هنا نشأ التناقض، فكان الفصل عندهم بينهما.

ـ(400)ـ

ولم يستطع رجال الكنيسة الابقاء على السلطة الزمنية بأيديهم فقد نازعهم فيها الفلاسفة والمفكرون، فانتزعوها من أيديهم، وتركوا لهم أمور العبادة والطقوس الدينية وقد وافقوا على هذا الواقع، ووجدوا في القول المأثور عندهم «أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله».

والخلاصة: فقد استقل رجال الكنيسة بالسلطة الروحية واحتفظ السياسيون بالسلطة الزمنية، ونتج عن هذا الاستقلال: فصل الدين عن الحياة، وفصل الدين عن الدولة والحكم والسياسة وعن شؤون المجتمع الاقتصادية والاجتماعية وعلاقات الدولة السياسية.

وأصبح من جراء هذا الفصل ان صار للدين مفهوم ضيق هو تدبير شؤون العبادة، داخل دور العبادة، وصار لهذا الدين بهذا المعنى رجاله الخبيرون بشؤونه المتفرغون لخدمته وتنظيم طقوسه ثم أطلق على هؤلاء رجال دين وصار مفهوما لدى الجميع ان رجال الدين لا شأن لهم في الحكم والسياسة ولا في شؤون الدولة وعلاقاتها ولا في أفعال رئيس الدولة وتصرفاته، وإنّما شأنهم وكل عملهم هو العبادة، وهو كل الدين ومن عمل خلاف ذلك فقد خرج على السلطان وأصبح مارقا منبوذا من غيره.

كما كان من أثر هذا كله ان صار للدنيا رجال هم رجال السياسة والدولة، عرف عملهم وخصص منهج تفكيرهم بأنه لا علاقة لـه بالدين ورجال الدين، وبهذا يكمن الخطر لهذا المفهوم وقد ركز فصل الدين ورجاله عن الدنيا ورجالها، وأصبح لرجال الدين إدارة تابعة للدولة.

وهنا لابد من الإشارة إلى ان رجال الثورة والسياسيين في أوروبا من حقهم ان يفعلوا ما فعلوا تخلصا من سيطرة الكنيسة وظلم رجالها ففصلوا دينهم عن الحياة

ـ(401)ـ

وشؤونهم ومنهم الحكم لأن الدين المسيحي كما هو واقعه وكما هي حقيقته دين أخلاق وعبادة فقط، لا دين نظام وتشريع شامل لشؤون الحياة كلها، فليس فيه من أنظمة للحكم ولا للاقتصاد ولا للسياسة والاجتماع... الخ كالإسلام، وليس فيه دولة تطبق تعاليم المسيحية وترعى شؤون الناس في الحياة حسب هذا الدين، ولكنهم ليس من حق رجال الثورة منع رجال الدين من رعاية شؤونهم وشؤون الناس، وإبعادهم عن الاشتغال بالسياسة والمشاركة في الحكم وما لـه من صلة بالدولة، لا، من حق كل إنسان رعاية شؤونه بنفسه.

هذا من الناحية النظرية البحتة المقررة التي يحاولون إشاعتها بين المسلمين وفي ديارهم لإبعادهم عن الإسلام بتجزئته وفصله عن الدولة ولكن هذه الناحية لم تكن عملية ومخالفة لفطرة الإنسان وغير منسجمة مع حياته فقد خرج عليها الأسقف مكاريوس رئيسا لقبرص. 

أما الإسلام فليس فيه رجال دين ولا رجال دنيا فكل مسلم هو رجل من رجال الإسلام ومن يعتقد بالإسلام يسمى مسلما والمسلمون جميعا أمام دين الإسلام سواء. وليس في الإسلام سلطة دينية ولا سلطة زمنية منفصلة عن الدين بل السلطة واحدة تقوم على أساس الإسلام وتطبق الإسلام وحده لأن الإسلام دين والدولة جزء منه والسياسة وهي رعاية شؤون الناس حكم شرعي من أحكامه، ولان الإسلام عقيدة ونظام أما كونه عقيدة فلأن أساسه يقوم على الإيمان بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر، والقضاء والقدر، وتلك هي عقيدة، وقد انبثقت عن هذه العقيدة أنظمة الإسلام في الحكم والسياسة والاقتصاد والاجتماع والعقوبات والبينات والمعاملات... الخ، وهذه الأنظمة أحكام شرعية استنبطها المجتهدون من الأدلة التفصيلية من الكتاب والسنة وما استند عليهما وارشد إليهما.

ـ(402)ـ

وقد سمى الإسلام المتخصصين في فهمه بالعلماء والفقهاء والمجتهدين والقضاة، أما الفصل بين المحاكم الشرعية والمحاكم المدنية فلم تكن في الإسلام، ولا يجوز ان تبقى مادامت تشعر بفصل الدين عن شؤون الدولة. فالمحاكم واحدة تحكم بالإسلام وحده، كما أن الإسلام لا يقر كل دائرة تشعر بهذا الفصل، كدائرة الأوقاف والشؤون الإسلامية.

لذلك كان في الإسلام فقهاء وعلماء ومجتهدون وليس فيه رجال دين بالمعنى المفهوم اليوم. ومنهم من تولى رئاسة الدولة واشترك في تولي المسؤولية في الحكم كإيران وهذا شيء اعتيادي يتفق مع طبيعة الإسلام، لان الدولة تحكم بالإسلام وتتولى شؤون الرعية على أساسه، بل من شروط الأفضلية لرئيس الدولة الإسلامية أن يكون عالما مجتهدا.

وان العالم بالإسلام يقوم بأداء بالعبادة ويعلمها كما يشتغل بأمور السياسة يفهم الحياة فهما مستنيرا يستولي على الدنيا بحقها وينال الآخرة بالسعي لها، وما ينطبق على العالم ينطبق على كل مسلم لأن مسؤولية الإسلام تقع على الجميع لقول النبي: كلكم راع وكلم مسؤول عن رعيته، ومن أصبح لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.

فمثل ذلك الفصل لم يقع في بلاد المسلمين إثناء حكم الإسلام، لأنه خلاف طبيعته لأنه ليس فيه سلطتان، إلا عندما فصلهما اليهودي اتاتورك وتبعه الشاه وبقية البلاد العربية كمصر وغيرها، باسم العلمانية أخطر فكرة ومؤامرة على الإسلام لفصله عن الدولة وأبعاد المسلمين عنه. كما قال الإمام الخميني: لقد أدرك المستعمرون أنهم الإسلام ومن هنا بدأت قبل سقوط العثمانية وبعدها الدعوة إلى الدولة العلمانية من النصارى واليهود من أجل أبعاد الإسلام عن حياة المسلمين، وحصره في المساجد

ـ(403)ـ

الفردية العبادية. وبلغ الأمر بهذه الخطة الاستعمارية عزل الدين عن المجتمع. كما قال الخميني: وجد المستعمرون ضالتهم المنشودة، للوصول إلى مطامعهم الاستعمارية لإيجاد ظروف تنتهي بالإسلام إلى العدم.

القضاء على الدولة الإسلامية:

انتهت الحرب العالمية الأولى بالقضاء على الدولة الإسلامية بعد تحطم الدولة العثمانية وتفككها إلى أجزاء واستولى الحلفاء على بلاد العرب جميعها وسلخوها عن الدولة ولم يبق في يد العثمانيين سوى تركيا التي دخلها الحلفاء، فقد احتلت الجيوش الانكليزية قسما من العاصمة والقلاع والمواضع الحربية الهامة، واحتلت فرنسا قسما من استانبول، واحتلت الجيوش الايطالية السكك الحديدية وأخذوا يسرحون قسما من الجيش التركي، وانحلت جمعية الاتحاد والترقي، وفر جمال باشا وأنور باشا خارج البلاد، وتألفت حكومة هزيلة برئاسة توفيق باشا لتقوم بتنفيذ أوامر الأعداء المحتلين.

وكان الخليفة وحيد الدين يحل البرلمان، وظل الحلفاء مسيطرين وظلت تركيا في حالة جمود حتى سنة 1919 ودب الخلاف بين الخلفاء وتنافسوا على الغنيمة وطمع كل منهم في ان ينال حصة الأسد من المراكز العسكرية ومن الامتيازات الاقتصادية وتألفت في استانبول أكثر من عشر جمعيات سرية مهمتها المقاومة السرية للعدو، ونشطت جمعية الاتحاد والترقي وانضم بعض الجيوش النظامية لهذه الحركات ثم تجمعت في حركة واحدة قادها: مصطفى كمال، وقام بحركة لمقاومة الحلفاء، وجيش الخليفة، ونجح في ذلك.

فقام بعقد مؤتمر وطني وقد اتخذ المؤتمر قرارات وانتخب لجنة تنفيذية واختار مصطفى كمال رئيسا لهذه اللجنة وأرسل هذا المؤتمر إنذارا إلى السلطان يطلب منه عزل رئيس الوزراء فريد وأجراء انتخابات لبرلمان جديد. فاضطر السلطان تحت هذا الضغط الخضوع لطلبات المؤتمر.

ـ(404)ـ

وعلى أثر هذا الفوز انتقل المؤتمر ورجاله إلى أنقرة، وصارت مركز العمل وذهب النواب إلى العاصمة، وأعربوا عن ولائهم للخليفة، ثم عكفوا على عملهم سنة 1920.

وقد حاول السلطان ومن ورائه الإنجليز إملاء أرادتهم على النواب فرفضوا ونشروا شروطهم وأهمها: ان تكون تركيا حرة مستقلة داخل نطاق حدود مقررة، فسرّ ذلك الحلفاء لأن هذا القرار هو الذي يسعون إليه ان يأتي من أهل البلاد أنفسهم، وان جميع البلاد التي كانت الدولة العثمانية تحكمها بوصفها دولة إسلامية قد وضعت لها عقب الحرب العالمية الأولى ميثاقا وطنيا يتضمن نصا واحدا هو: استقلال الجزء الذي أراده الحلفاء ان يكونوا بلدا منفصلا كسوريا ومصر والعراق لأن خطة الإنجليز تقطيع أوصال الدولة العثمانية وتقسيمها إلى دول حتى لا تعود دولة واحدة قوية، وحتى يقضي على دولة المسلمين.

الدولة العثمانية الواحدة التي تعتبر جميع ولاياتها جزءا منها وهي سائرة على نظام الوحدة الإسلامية، فلم يكن هناك فرق بين الحجاز وتركيا. إذ كلها دولة واحدة، وقد طلب العثمانيون أنفسهم تقطيع دولتهم أجزاء، طلبه العرب والترك على السواء.

ولهذا اعتبر الحلفاء الميثاق الوطني الانتصار النهائي لهم. وصاروا ينسحبون من كل مكان وقامت في البلاد حركة مقاومة للعدو انقلبت إلى ثورة ضد السلطان، ما جعله يجهز جيشا ويرسل لها حملة قوية قاومتها وقضت عليها. وصار الناس كلهم مع السلطان ماعدا أنقرة التي كانت مركز الثورة.

وصار مصطفى كمال ومن معه. يشيعون في تركيا أنباء عن احتلال الإنجليز للعاصمة، ومؤازتهم السلطان وحكومته لهم، فتغير الموقف فانصر الناس عن السلطان وإنجاز الرأي العام إلى أنقرة، وفر كثيرون من جيش الخليفة وانضموا إلى

ـ(405)ـ

جيش مصطفى كمال الذي أصبح محط الأنظار ومعقد الآمال. وقد قويت جبهته وصارت أكثرية البلاد في قبضته، فأصدر منشورا بالدعوة إلى انتخاب جمعية وطنية، يكون مقرها أنقرة. ثم انتخبوا مصطفى كمال رئيسا للجمعية.

وصارت أنقرة مركز الحكومة. وأنضم إليهم جميع الأتراك، فقام مصطفى كمال وسحق ما تبقى من جيش الخليفة وفي سنة 1921 قام بهجوم خاطف انتهى بانتصاره على اليونان وأرسل لمقابلة هارنجتون للاتفاق على التفصيلات وهناك وافق الحلفاء على طرد اليونانيين وجلائهم.

والظاهر من تتبع خطوات مصطفى كمال ان موافقة الحلفاء هذه كانت مقابل قضاء مصطفى على الحكم الإسلامي بقوله «انا لست مؤمنا بعصبة من الدول الإسلامية. ولكل منا اعتناق الرأي الذي يراه. اما الحكومة فينبغي ان تلتزم سياسة ثابتة مرسومة مبنية على الحقائق لها هدف واحد فقط، ان تحمي حياة الوطن واستقلاله داخل حدوده الطبيعية».

 وصار يثير الرأي العام على الخليفة وحيد الدين، وبإلغاء السلطنة، والفصل بينهما وبين الخلافة، وخلع وحيد الدين. مخالفا للشرع، لأنه لا يوجد في الإسلام سلطة دينية وأخرى زمنية، فالسلطنة والخلافة شيء واحد ولا يوجد شيء يسمى الدين، وشي  يسمى الدولة، بل هنالك نظام الإسلام، وتعتبر الدولة جزءا منه، وهي التي تقوم على تنفيذه. لأن نصوص الإسلام صريحة فيه، لكن مصطفى كمال كان يريد فصل الدين عن الدولة بفصل السلطة عن الخلافة، أجابه لطلب الحلفاء منه، حتى يقضوا على آخر الدولة الإسلامية على يد أهلها، ولأن ثقافته الاستعمارية التي يقلد فيها الغربيين في فصل السلطة الزمنية عن السلطة الروحية تحمله على القيام بفصل السلطة عن الخلافة، كما فصلت الكنيسة عن الدولة في الغرب. فقال:

ـ(406)ـ

«ان السلطنة يجب ان تفصل عن الخلافة وتلغى» ولما علم بذلك الخليفة وحيد الدين فر هاربا. ونودي بابن أخيه عبد المجيد خليفة للمسلمين، مجردا من كل سلطان.

لأن مصطفى كمال كان حريصا على فصل السلطة عن الخلافة، وقام بتأليف حزب الشعب. وكان يقصد من ذلك ان يأخذ الرأي العام بجانبه. وإعلان تركيا جمهورية،

وإعلان نفسه رئيسا لها.

وما فعله مصطفى كمال يخالف الإسلام لذلك سادت البلاد فكرة مؤداها انه يعتزم القضاء على الإسلام، وأيدت هذه الفكرة تصرفاته فانه كان متنكرا للإسلام في حياته الخاصة مخالفا لكل الأحكام الشرعية، يظهر السخرية من كل الأوضاع المقدسة عند المسلمين. وتيقن الناس ان حكام أنقرة الجدد كفرة. وصار الناس يلتفون حول الخليفة عبد المجيد ليقضي على هؤلاء المرتدين، فأدرك مصطفى كمال الخطر ورأى ان أكثرية الشعب تكرهه. وتتهمه بالزندقة والكفر والإلحاد، وفكرة في الأمر ونشط في الدعاية ضد الخليفة والخلافة، ثم أخذ يتحدث عن إضرار الخلافة في كل مجلس، وأخذ يهيء الأجواء لإلغاء الخلافة، فقام بعض النواب يتحدثون عن فائدة الخلافة لتركيا، فقاومهم مصطفى كمال، وقال: «أليس من أجل الخلافة والإسلام قاتل الأتراك وما توا طيلة خمسة قرون ؟ لقد آن أن تنظر تركيا إلى مصالحها، وتتجاهل الهنود والعرب، وتنقذ نفسها من تزعم المسلمين».

وهكذا سار مصطفى كمال في دعايته ضد الخلافة يبين أضرارها للأتراك، بل أوجد موجة إرهاب ضد من يؤيدون الخلافة فإن أحد النواب قد صرح بلزوم الخلافة والمحافظة على الدين ما كان من مصطفى كمال إلا أن كلف شخصا باغتياله في الليلة التي تكلم فيها. وهكذا نشر الرعب في طول البلاد، ولما لاحظ ذلك بعض المعتدلون، وخافوا من إلغاء الخلافة والتمسوا نصب نفسه خليفة للمسلمين. فلم يقبل، ثم جاءه

ـ(407)ـ

وفدان من مصر والهند، وطلبا إليه ان ينصب نفسه خليفة ولكن رفض ذلك وهيأ ضربته القاصمة بإعلان الغلاء الخلافة: وأثار في الاجواب عند الشعب والجيش والجمعية البغض للأجانب وللأعداء ولحيلفهم الخليفة ـ على حد زعمه ـ وسمم الجو بالإشاعات المثيرة ضد الخليفة ولما سيطر هذا الجو على البلاد تقدم مصطفى كمال سنة 1924 م إلى الجمعية الوطنية بمرسوم يقضي بإلغاء الخلافة، وطرد الخليفة وفصل الدين عن الدولة، وقال:

«بأي ثمن يجب صون الجمهورية المهددة وجعلها تقوم على أسس علمية ؟ فالخليفة ومخلفات آل عثمان يجب ان يذهبوا، والمحاكم الدينية العتيقة يجب ان تستبدل بها محاكم وقوانين عصرية » ثم حمل على الدين. ثم أرسل إلى حاكم استانبول أمرا يقضي بأن يغادر الخليفة عبد المجيد تركيا، وهكذا هدم مصطفى كمال الدولة الإسلامية والنظام الإسلامي وأقام الدولة الرأسمالية والنظام الرأسمالي وبذلك قضى على الدولة الإسلامية وحقق للكفار حلمهم منذ الحروب الصليبية ألا وهو: القضاء على دولة الإسلام.

الحيلولة دون قيام الدولة الإسلامية:

انتهت الحرب العالمية الأولى واستولى الحلفاء على جميع بلاد الدولة الإسلامية وكان همهم القضاء على هذه الدولة نهائيا، والحيلولة دون قيامها مرة أخرى في أي جزء من أجزاء العالم الإسلامي. وقد وضعوا عدة خطط واستعملوا عدة أساليب لضمان عدم رجوع الدولة الإسلامية للوجود، ولا يزالون يعملون من أجل هذه الغاية. فمنذ ان احتل المستعمر بلاد المسلمين قام بتثبيت حكمه لها على الأسس التي رسمها، فقد احتل البلاد التي كانت تحت حكم الدولة العثمانية سنة 1918 واقام فيها الحكم العسكري حتى سنة 1992 ركز حكمه فيها باسم الانتداب، وباسم الاستقلال الذاتي

ـ(408)ـ

حتى سنة 1924 حيث قامت أعمال عدة أجهز بها العدو البريطاني على كل ما فيه شبهة تمت إلى قيام الدولة الإسلامية، بإلغاء مصطفى كمال الخلافة من الدولة العثمانية بتأثير من المستعمر وجعل تركيا جمهورية ديمقراطية، فقضى على شبح الخلافة حتى يقضي على آخر أمل في رجوع الدولة الإسلامية.

وفي تلك السنة تدخل الإنجليز بواسطة عملائهم في مؤتمر الخلافة الذي كان معقودا في القاهرة وعملوا على فضه وإخفاقه. وأخذ الإنجليز يعملون لإلغاء جمعية الخلافة في الهند ولإحباط مساعيها وتحويل تيارها إلى الناحية الوطنية والقومية. وفي تلك السنة صدرت في مصر بتأثير من المستعمر مؤلفات من بعض علماء الأزهر كعلي عبد الرزاق يدعو لفصل الدين عن الدولة، وتدعي ان الإسلام ليس فيه أصول للحكم، وتصور الإسلام بأنه دين كهنوتي كالنصرانية، ولم يرد فيه شيء عن الحكم والدولة كمحمد خلف الله.

وقامت في البلاد العربية مجادلات حول موضوعين هما: هل الجامعة العربية أصلح أم الجامعة الإسلامية، واشتغلت الصحف والمجلات مدة في هذا الموضوع.

مع أنه غير صالح، ووجوده يحول دون قيام الدولة الإسلامية، ولكن المستعمر أوجد هذا الجدل لتحويل الأذهان عن الدولة الإسلامية. وبهذا استطاع أبعادها في البلاد الإسلامية عن فكرة الخلافة، وفكرة الدولة الإسلامية.

وكان الاستعمار قبل احتلاله قد أخذ يشيع بين شباب العرب والترك فكرة القومية العربية والتركية، وان تركيا دولة مستعمرة وان آن إلا وان للعرب ان يتخلصوا من نير الاستعمار التركي، وقد ألفت الأحزاب السياسية للعمل من أجل الوحدة العربية واستقلال العرب.

وما ان جاء الاحتلال حتى أخذ المحتل يشيع أفكار القومية وأخذت تحل محل

ـ(409)ـ

الإسلام فاستقل الأتراك على أساس قومي وطني، وأخذ العرب يعملون للحكم الذاتي على أساس قومي وطني، وشاعت فكرة القومية والوطنية وملأت الأجواء، وصارت هي موضع الفخر والاعتزاز وبأنه حكم ديني كهنوتي ووجد بين المسلم عرف عام بأن أمر المطالبة بالخلافة تأخر وجمود وظروف استثنائية انتهت ولا يجوز ان يصدر عن مثقف ولا يقول به مفكر.

وفي هذه الأجواء القومية والوطنية قسم البلاد الإسلامية إلى دويلات وجعل أهل كل بلد يركزون هذا التقسيم ويثبتونه وصار المشتغلون بالسياسة فيه من عملاء الدولة التركية والسورية. ثم أقام في فلسطين وطنا قوميا لليهود، ليكون رأس جسر لـه ويشغل بن المسلمين عن المستعمر، وهو الدول الغربية كبريطانيا وأميركا وفرنسا، وليكون حاجزا من الحواجز التي تحول دون رجوع الدولة الإسلامية. وبذلك ركز الوضع الجغرافي وثبت الحدود والأجواء العامة تركيزا يحول دون تحرير المسلمين. وقام بتطبيق النظام الرأسمالي في الاقتصاد، والنظام الديمقراطي في الحكم والقوانين الغربية في الإدارة والقضاء، وثبت حضارته ومفاهيمه عن الحياة هي الطريقة التي يعيش عليها المسلمون، وقد نجح في ذلك، بإقامة النظام الملكي في مصر والنظام الجمهوري في لبنان وفي فلسطين حكما انتدابيا انتهى بقيام نظام ديمقراطي وفي تركيا جمهورية وفي إيران إمبراطورية وفي الجزيرة العربية ملكية وراثية، وظل مستعمرا الهند، ثم قسمها إلى دولتين وبهذا جعل المستعمر نظامه هو الذي يطبق في بلاد المسلمين فاضعف في النفوس فكرة إعادة حكم الإسلام. وجعل من نفس أهل البلاد المحافظة على نظامه الذي إقامة، وهكذا صار حكام كل بلد يحافظون على هذا النظام الرأسمالي الديمقراطي. وصاروا موظفين بوظيفة الحراسة على ما أقام لهم المستعمر من نظام

ـ(410)ـ

ودستور، ويعتبرون تغييره حركة غير مشروعة يعاقب عليها قانون المستعمر الذي وضعهم لتنفيذه. وقام بتطبيق القوانين الغربية على بلاد المسلمين مباشرة، وبالواسطة عن طريق العملاء في البلاد الإسلامية، إذ حاول الاستعمار منذ أول النصف الثاني من القرن التاسع عشر إدخال القوانين الغربية إلى البلاد الإسلامية.

ففي مصر بدأ الاستعمار يشجع إدخال القانون المدني الفرنسي ليحل محل الأحكام الشرعية، ونجح في ذلك وبدأت مصر منذ سنة 1883 م تطبق القانون الفرنسي، وفي الدولة العثمانية بدأت منذ 1856 م حركة لأخذ القوانين الغربية بإلحاح الاستعمار واستجابة العملاء مكنهم من إدخال قانون الجزاء وقوانين الحقوق والتجارة بأخذ فتاوى بأنها لا تخالف الإسلام، ودخلت فكرة التقنين، وجعلت المحاكم قسمين: شرعية ونظامية، تحكم حسب القوانين الغربية التي أفتى العلماء بأنها لا تخالف الإسلام وحسب القوانين الشرعية التي صيغة تقليدا للقوانين الغربية.

هذا بالنسبة للقوانين، أما بالنسبة للدستور، بجعله يؤخذ من الدستور الفرنسي سنة 1878 م بملاحقة المستعمر ونجاح عملائه والمصبوغين بثقافته مكن حركة الدستور من الظهور والنجاح بوضع الدستور موضع العمل في الدولة سنة 1908 وبوضع القوانين موضع العمل في الدولة العثمانية وصارت البلاد الإسلامية في جملتها ما عدا الجزيرة العربية تسير نحو القوانين الغربية، وما ان احتل المستعمر البلاد حتى قام بتطبيق سائر القوانين الغربية مباشرة باعتبارها قوانين مدنية لا علاقة لها بالإسلام وتركت الأحكام الشرعية، فثبت ذلك حكم الكفر وأبعد حكم الإسلام، وقد ساعده على ذلك أنه ثبت أركانه وقام جميع شؤونه على أساس سياسة التعليم التي رسمها، والنظم والمناهج التربوية التي وضعها، والتي ظلت تطبق حتى اليوم في كافة البلاد الإسلامية وأنتجت ما أنتجته من هذه الجيوش من المعلمين الذين يقوم أكثرهم على

ـ(411)ـ

حراسة هذه البرامج وحمايتها والذين يتولى الكثيرون منهم زمام الأمور، ويسيرون وفق ما يريد المستعمر.

وقاد قامت سياسة التعليم ووضعت مناهجه على أساسين اثنين:

أحدهما: فصل الدين عن الحياة، وينتج عنه طبيعيا فصل الدين عن الدولة، وذلك يحتم ان يقوم أبناء المسلمين بمحاربة قيام دولة إسلامية لأنها تتناقض مع الأساس الذي تعلموا على سياسته.

الأساس الثاني: هو جعل شخصية الكافر المستعمر المصدر الرئيسي لما تحشى به العقول الناشئة من معارف ومعلومات. وذلك يوجب احترامه وتعظيمه ومحاولة محاكاته وتقليده، ويوجب احتقار المسلم والابتعاد عنه والاستنكاف عن الأخذ منه. وهذا يقضي بمحاربة إقامة دولة إسلامية واعتبارها رجعية. ولم يكتف الاستعمار بمناهج المدارس التي يشرف عليها أو تشرف عليها الحكومات التي أقامها مقامه. بل جعل إلى جانبها المدارس التبشيرية القائمة على أساس استعماري، والمعاهد الثقافية التي تأخذ على عاتقها التوجيه السياسي الخاطئ والتوجيه الثقافي المغلوط.

وقامت إلى جانب ذلك المناهج السياسية في كافة البلاد الإسلامية على أساس فصل الدين عن الحياة، وصار العرف العام عند المثقفين هو فصل الدين عن الدولة وعند عامة الشعب فصل الدين عن السياسة، وكان من جراء ذلك ان وجدت فئات من المثقفين تزعم ان سبب تأخر المسلمين هو تمسكهم بالدين، وان الطريق الوحيد للنهضة هو القومية والعمل لها.

كما وجدت فئات تدعي ان سبب تأخر المسلمين هو الأخلاق فقامت على الأساس القومي تكتلات حزبية سياسية تعمل للقومية والوطنية، وتعتبر العمل على أساس الإسلام دسيسة استعمارية، وتعتبرها رجعية وجمودا يؤدي إلى التأخر والانحطاط.

ـ(412)ـ

كما قامت على الأساس الخلقي تكتلات جمعية على أساس الأخلاق والوعظ والإرشاد، وصارت تعمل للخلق والدين واشترطت على نفسها ان لا تتدخل في السياسة وبذلك كانت هذه الأحزاب والجمعيات الحائل العملي الذي يحول دون السعي لإيجاد الدولة الإسلامية لأن الجمعيات انصرفت عن العمل السياسي الواجب شرعا وهو إقامة الدولة الإسلامية إلى العمل الخلقي.

2 ـ العلمانية:

النشأة: العلمانية مفهوم غربي فكري سياسي نشأ حوالي القرن التاسع عشر بإبعاد الدين عن السياسة بالثورة الفرنسية يحث حلت مسألة ازدواج السلطة ليس في فرنسا وحدها وإنّما في كل إنحاء أوروبا، وإذا كان ظهور العلمانية في بلاد الغرب أمرا طبيعيا لأنها كانت حلا لمشكلة منبثقة عن طبيعة الديانة النصرانية القائل فيها المسيح «ان مملكتي ليست موجودة في هذا العالم».

لقد ولدت العلمانية نتيجة لمشكلة عانت منها أوروبا فهل تتوفر في الإسلام وعالمه الإسلامي ؟ أم أنه علينا ان نتحد مع العالم الغربي في مشكلة فنأخذ الدواء ولا نعاني من الداء. وإذ كان من الصعب تحديد الزمن الفعلي والدقيق لنشأة هذا المفهوم الفلسفي، إلا انه ليس من الصعب تحديد العوامل التي ساعدت من بعد أو قرب على ولادته التي مرت بفترتين هما: فترة أولى وثانية.

الفترة الأولى: العلمانية المعتدلة، أعطت ما لقيصر لقيصر وما لله لله. أي الفصل بين الدين والدولة.

الفترة الثانية: العلمانية المتطرفة، جعلت الدين أفيون الشعوب، أي الاشتراكية العلمانية.

ـ(413)ـ

تلك كانت صورة العلمانية في الغرب والشرق الاشتراكي. ولما اكتشف مصطلح العلمانية اللادينية كان لابد من طرح البديل، مصطلح العقلانية، وطرح فصل الدين عن الدولة، في العالم الإسلامي.

انتشار العلمانية في العالم الإسلامي وأثرها على الإسلام والمسلمين:

ان نابليون اتى بالحضارة الغربية إلى البلاد العربية ومنذ ذلك التاريخ بدأ التغريب كواحد من أخطر التحديات التي تواجه الإسلام والمسلمين في العصر الحديث. وإذا كان التغريب يمثل تحديا خطيرا للإسلام وأهله، فلقد كانت العلمانية القومية واحدة من أخطر الجبهات التي مارسها التغريب ضد الإسلام والمسلمين في الدين والدولة.

لما كان الغرب هو الغالب والمغلوب هو العالم الإسلامي، حيث جثا الرجل المريض على ركبتيه، إلى أن أسقطه الغرب فاتجه المغلوبون إلى الغالب يبحثون لديه عن علاج لداء التخلف الذي ساد أرجاء العالم الإسلامي منذ القرن التاسع عشر وحتى عصرنا، وقاسوا حالة الشرق الإسلامي على حالة الغرب النصراني دون وجود علة، فكان السعي لفصل الدين عن الدولة، وكانت العلمنة هي الدواء الذي تجرعه المسلمون فزادتهم مرضا وضعفا. عبر بوابة التخلف دخلت العلمنة إلى العالم الإسلامي، ولكن بأساليب وطرائق كان تحديدها منوطا بالمفكرين الغربيين والنصارى العرب. فخرجت إلى حيز الوجود أول دولة إسلامية تعلن أنها تتبنى النظام العلماني القومي بديلا للنظام الإسلامي العالمي على يد اليهودي أتاتورك.

ومن نافلة القول انه ليس مصادفة أبدا ان تكون دولة الخلافة الإسلامية هي أول من تبنى النظام العلماني القومي... الذي شمل مختلف نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

هكذا نرى ان العلمانية ظاهرة أوروبية محضة ان من حيث موطنها أو من حيث

ـ(414)ـ

وسطها الحضاري، أو من حيث المعطيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أدت إليها، ومن هنا يتضح انها ليست مشكلة إسلامية، لا على مستوى الدين ولا السياسة. وان البديل المطلوب اليوم هو فصل الدين عن السياسة.

وآية ذلك اننا لا نستطيع الحديث عن العلمانية وبحثها بدون الحديث عن أوروبا، مجتمعا وسياسة، بينما نستطيع ان نتحدث عن العلمانية دون ان يرد للإسلام دنيا وحضارة أي ذكر، بل ان أقحام الإسلام في الحديث عن العلمانية يفسد البحث ويخرجه عن الإطار المنهجي، ذلك ان لا علاقة على الإطلاق للإسلام بالعلمانية، فيكون حديثنا عن موضوع غربي غريب هو العلمانية، وفي محاولة لاستقراء الوقائع التشريعية والتاريخية، كما يقول الخميني: دعوة انفصال الدين عن السياسة انطلقت في أوروبا لأسباب تعود إلى ممارسة الكنيسة التعسفية، وانحراف رجال الدين، هذه الدعوة رددها المبهورون والمغرضون في عالمنا الإسلامي، ممهدين الطريق لسيطرة المستعمرين. والذي عملوه في كل هذه المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية هو أنهم سخروا إعلامهم ووسائل دعايتهم إلى أبعاد الدين عن السياسة والحياة والمجتمع.

وقال فضل الله: هناك فرق فكري بين القاعدة التي ينطلق منها الدين والقاعدة التي تنطلق منها العلمانية. ان العلمنة الحاد، لذلك من الصعب الجمع بين العلمنة والدين بمعناهما الفكري، عندما يراد لهما تجريب حظهما في الحياة والانطلاق فيها.

لقد كانت تركيا السباقة من بين الدول التي طبقت النظام العلماني القومي، وقد تجلى هذا التطبيق في عدة مراحل بلغ وصوله إلى نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمسلمين، ومن تركيا بدأت تتسرب العلمانية إلى سائر بلاد المسلمين مسوغة بآراء وأفكار تتهم الإسلام بالجمهود والقصور، وتصور العلمانية الدواء الشافعي

ـ(415)ـ

من مرض التخلف والانحطاط الفكري الذي يرزح تحت نيره الثقيل العالم الإسلامي.

امام هذا الامتداد العلماني كان لابد من وقفة لعلماء المسلمين، ليظهروا باطل دعوة العلمانيين لا لأنها وأرد مستورد غريب، بل لأنها إحدى السموم الساسية التي قضت على وحدة وكيان العالم الإسلامي، وزرعت فيه السرطان اليهودي، سواء اكانت العلمانية هي اللادينية كما هو ثابت في المعاجم للغوية، أو كانت العلمانية لا تتصل بأمور الدين وإنّما تعني فصل الدين عن الدولة كما يقول المدافعون عنها، فان النتيجة المترتبة على الأخذ بالعلمانية في الحالين هو فصل الدين عن الحياة عامة.

ومن الطبيعي ان هذه الأفكار التي نشرها الاستعمار في أوساطها بدءا من مقولة: انه لا حكم في الإسلام، وعلى فرض وجود أحكام شرعية فإنها تفتقر إلى التنفيذ، وبالتالي فالإسلام شريعة.

هذه هي العلمانية كخصوصية غربية احتاج إليها الغرب لظروف خاصة به، والعالم الإسلامي ليس بحاجة إليها لأنها كانت حلا لمشكلة الغرب مع السلطات الدينية، وهي في العالم الإسلامي تكون المشكلة ذاتها. فإذا أخذنا العلمانية في مقابل الحياة الغربية نجدها لا تتعارض مع عقيدتهم التي تفصل الدين عن الدولة، ولكنها عندنا تعارض عقيدتنا التي من مقتضياتها الإيمان بحكم الله وتعارض الشريعة التي أنزلها الله منظمة لحياة الناس.

فالعلمانية عندنا تعني تصفية للوجود الإسلامي، مالم يكن خادما للسلطة السياسية العلمانية التي تفصل الدين عن الدولة.

هذه هي العلمانية كخصوصية غربية، وحل غربي لمشكلة غربية، ولمواقف الإسلام والمسلمين منها، حيث تم رفضها لا لأنها واردا غريبا على امتنا بقدر ما هي سم في دسم حضارة الغرب.

ـ(416)ـ

هدم دعوى عدم شمول الإسلام

3 ـ التصورات الفردية للإسلام:

ان الغرب يبني سياسته ويبرر مؤامراته على الإسلام على أساس قائمة على استقصاء ما يكتبه المسلمون. فلماذا لا نبني دراساتنا السياسية في مقاومة وإحباط خططه ومؤامراته على أساس مدروس؟ يقوم على استقصاء ونقد ما كتبه ساسته وعلماؤه عن التاريخ الإسلامي عامة والنظم الإسلامية خاصة.

ان كثيرا من الظواهر الغربية تبدو للنظرة السطحية العاجلة قليلة الخطر، ولها نتائج خطيرة تعين مثل هذه الدراسات على كشفها. فهذا جب (1) على سبيل المثال يبين نتائج تطوير الفنون في مؤتمر برنستون عام 1947: بأن إشاعة الفنون سيؤثر في النظم والقيم كلها ويتمخض عنه نتائج تقرب فن التفكير الأوروبي.

ويبين سميث (2) نتائج الارتباط بين الدراسات اليونانية واللاتينية والعلمانية في تركيا بأنه جزء من تصميمنا على ان تصبح قطعة من أوروبا بلغتها وحضارتها. ونابليون (3) يشير إلى أثر المسرح وأهميته في تطوير المجتمع بإرسال فرقة الكوميدي إلى مصر لتغيير عوائدها بإثارة عواطفها.

ان التطور قد يبدو ضئيلا إذا نظر إليه كل باحث من زاوية خاصة كالأديب من زاوية الأدب، والفنان من زاوية الفن، وصاحب القانون من زاوية الفقه المقارن.

والواضع ان أدراك حقيقة الشيء يستلزم النظرة الشاملة إليه، المحيط به من كل نواحيه للتمكن من أدراك خطورته وآثاره وذلك هو ما دعا جب وكرومر وسميث

________________________________

1 ـ جب: الشرق الأدنى وثقافة ص 354.

2 ـ سميث: الإسلام في التاريخ الحديث ص 302.

3 ـ سلامة: تيارات أدبية ص 325.

ـ(417)ـ

وغيرهم إلى تصور النتائج الخطيرة المترتبة على التطوير الخطر على الإسلام والمسلمين لأنه إفساد لهم بإدخال الزيف على الصحيح، وتثبت الغريب الدخيل على الإسلام فيصبح المسلمون يعتقدون ان ما يفعلونه هو الإسلام. فإذا جاء من يردهم إلى الإسلام الصحيح أنكروا عليه واتهموه بالجمود.

ويبررون أفكارهم ويؤصلون تقليدهم ويقحمون على الإسلام ما يفسده فيصبح أخلاطا شتى لا يضمها نظام وينتهي التطوير بالمسلمين إلى الفوضى والانقسام إلى فرق وجماعات برزت في المرحلة التي بدأت مع الاستعمار والتي برز فيها رجل غريب الأطوار، يحيط سيرته وأهدافه غموض كشفت حقيقته بعد تركه أثرا باقيا حتى الآن في كثير من المتصدين لإبداء الرأي المحاطين بالدعاية لنشر أفكارهم بين المسلمين خدمة لأهداف الغرب المتبني هذه الزعامات في التاريخ الحديث وتفسير أحداثه قوميا وماديا بأنهم دعاة إصلاح وحركاتهم إصلاحية وآراؤهم سليمة لأنهم أعلام الفكر والتشهير بأي رأي سليم بنسبته إلى ضيق الأفق كما يرى جب (1).

ولذلك يدعونا محمد حسين (2) إلى إعادة تقويم الرجال حتى لا تقوم أصنام جديدة معبودة في مجتمعنا معصومة عند المتعصبين المخدوعين بهم، فمصدر الخطر إذن هو: فقدان مقياس الحق وهو معرفة الرجال بالحق وهذا يؤدي إلى فقدان التمييز والإحساس بين ما هو إسلامي وما هو غربي وذلك يعني فقدان الشعور بالذات والانصهار بالآخر. ولذلك يجب ان يبقى التمييز بين ما هو إسلامي وما هو طارئ مستورد شرقيا أو غربيا حيا في نفوس الأجيال القادمة وهذه أمانة في عنق المسلمين يحملها الدعاة الوعاة.

________________________________

1 ـ محمد حسين: الإسلام والحضارة ص 325.

2 ـ محمد حسين: نفس المصدر 67.

ـ(418)ـ

ونظرا لغياب الإسلام عمليا عن ميدان الفقه الدستوري، خاصة بعد هدم الدولة الإسلامية، وحلول الأنظمة الرأسمالية، غشى على أبصار الباحثين في نظام الحكم الإسلامي تصور نتيجة الغزو الثقافي الاستعماري لبلاد المسلمين، أدى إلى القول بأن الإسلام لما يأت بنظام للحكم، وترك المسألة للعقل تدبرها، مما أدى بهم إلى القول في الإسلام لا يخرجهم منه. ويثبت حقيقة ان الإسلام شامل وحاو لأحكام الوقائع الماضية كلها، والمشاكل الجارية جميعها، والحوادث التي يمكن ان تحدث بأكملها. أي انه لم تقع واقعة، ولا تطرأ مشكلة، ولا تحدث بيان أحاطة الإسلام وشموله، لابد من إلقاء نظرة على بعض التصورات الفردية التي ترمي الإسلام بعدم شمول أحكامه لكافة أوجه النشاط الإنساني. وخاصة نظام الحكم.

أولا: لم تأت الشريعة بنظام للحاكم:

وصاحب هذا التصور هو الشيخ عبد الرزاق الذي يقول في كتابه الإسلام وأصول الحكم: الإسلام دين لا دولة، ورسالة لا حكم. فكرة فصل الدين عن الدولة، وفصل الدين عن السياسة والحكم، هما الفكرتان الأساسيتان في الكتاب. ويتفرع عنهما قولـه: إذا كان النبي قد أسس دولة، أو شرع في تأسيسها، فلماذا خلت دولته أذن من كثير من أركان الدولة ودعائم الحكم ؟ ولماذا ترك العلماء في حيرة واضطراب من أمر النظام الحكومي في زمنه ؟

يريد الشيخ ان يعرف منشأ ذلك الذي يبدو للناظر كأنه ابهام واضطراب أو نقص في بناء الحكومة أيام النبي، وكيف كان ذلك، وما سره ؟ فيرد عليه الامام جعفر الصادق بقول: أو أن قوما عبدوا الله في عباداته الأربع، ثم قالوا لشيء صنعه النبي: ألا صنع خلاف ما صنع أو أوجدوا في ذلك حرجا في أنفسهم لكانوا مشركين. لذلك فان كل من اتهم النبي في الحكم فهو كافر عند ابن العربي.

ـ(419)ـ

وقد كان استفهام الشيخ إنكارا لمجييء الإسلام بنظام للحكم يطبق على المسلمين... أو ان الدولة من الإسلام، لأنه يرى ان الدين براء من السياسة، فلا علاقة بين الشرع وتنظيم العلاقات بين الناس... فيقول الشيخ: هيهات هيهات، لم تكن ثمة حكومة، ولا دولة، ولاشيء من نزعات السياسة، ولا أغراض الملوك والأمراء. ويا بعد ما بين الدين والسياسة.

فالشيخ ينفي عن قناعة مطلقة ان يكون الإسلام قد جاء بنظام للحكم، أو ان يكون النبي قد أقام دولة سياسية. وقد كان الشيخ فاتحه الهجوم على عدم شمول الإسلام للاحكام المتعلقة بنظام الحكم بعد اتاتورك اليهودي ثم تبعه الشيخ علي الازهري وشيخ الأزهر المراغي الذي يقرر: ان من ينظر في كتب الشريعة الأصولية بعين البصيرة والحذق يجد ان من غير المعقول ان تصنع قانونا... أو مبدأ في القرن الثاني الهجري، ثم تجي بعد ذلك فتطبق هذا القانون في عام 1936.

ثانياً: عدم صلاحية نظام الحكم في الإسلام للتطبيق في العصر الحديث كما يقول المراغي: ان في إمكان أي حكومة إسلامية ان تخرج عن دينها فتصبح حكومة لا دينية، أي علمانية، وليس في هذا مانع من ان يبقى الشعب على إسلامه. بعد جعل العقل هو الحاكم وبالتالي تكون السيادة للشعب في الديمقراطية وللشرع في الإسلام لأن من الأسس التي تبني الديمقراطية فلسفتها عليها كون العقل هو الحاكم، فكر باطل مردود بنص القرآن بقوله تعالى ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾. لأن القوانين المنبثقة عن الديمقراطية التي تفصل الدين عن الحياة قامت أصلا على العقل كافرة منكرة للإسلام كنظام عامل شامل كامل لجميع شؤون الحياة والإنسان والكون. فالحاكم هو الشرع، وهو صاحب السيادة المطلقة في الحياة السياسية الإسلامية لأن السياسة ما وافق الشرع.

ـ(420)ـ

ثالثا: ان الإسلام لم يتعرض لنظام الحكم إلا نادرا: أي ان الإسلام نظم جانبا قليلا من نظام الحكم، وترك بقية النظام دون تنظيم لأن القرآن والحديث لم يتعرضا لنظام الحكم إلا في القليل النادر. ولم يبين النبي للناس نظام الحكم من بعده، كما يقول الطماوي المصري.

رابعاً: ترك الإسلام تنظيم كافة أوجه الحكم ليتناسب الإسلام مع التطور: لأن ما يصلح للدولة في المدينة، لا يتمشى مع حالة الدولة في بغداد ولا كذلك في استانبول ن باعتبار ان العصر دوما لـه طابعه المميز. لذلك، اقتضت الضرورة التطور البشري، واختلاف الظروف باختلاف العصور ألا ينزل الإسلام بصورة مفصلة موحدة لكيفية نظام الحكم.

وان التعميم الذي لا ينزل إلى التفصيل الجزئي يقي الأجيال المقبلة بهذا التفصيل، بل يتركها حرة تقتبس الوضع فيه الملائمة العملية لحاجات كل زمان ومكان. لذلك فان لا شورى من الأمور التي تركت نظمها دون تحديد. لتحددها الديمقراطية لأن نظام الحكم في الدولة الإسلامية الأولى كان ساذجا يغلب عليه طابع البداوة كما يقول شلتوت وسيد سابق والعربي.

ولم يكن التطبيق الإسلامي الأول قد صادف بيئة محلية أو عالمية نضجت فيها الآراء بشأن أنظمة سياسية متكاملة، ومن ثم كان الفقه بسيطا في شؤون السياسة والاقتصاد كما يقول فتحي عثمان. وحتى يمكن تطوير نظام الحكم الإسلامي تبعا لمقتضيات ظروف الزمان والمكان والوعي الحضاري عند الجرف.

هذه جملة تصورات فردية تؤكد عدم أحاطة الشريعة بكافة جوانب الحياة وان نظام الحكم الإسلامي تركت معظم تفصيلاته بلا معالجة للديمقراطية، أي انهم يقولون بعدم شمول النظام الإسلامي.

ـ(421)ـ

ولرد هذه الشبهة المخالفة للإسلام، ونفيها عنه لأنها ترمي الشريعة بالنقص وعدم الكمال، وإهمال بعض جوانب الحياة وان هناك مشاكل سياسية واقتصادية لم يعالجها الإسلام فجعلوا العقل هو الحاكم تأثرا بالديمقراطية الغربية التي تجعل السياسة للشعب مشاركة لله في حكمه، ولابد من عرض هذه الشبهة على القرآن، لنفيها لأنه ينص على احادة الشريعة وشمول الإسلام لجميع جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لقولـه تعالى ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾ وقولـه: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ فالشريعة لم تهمل شيئا أو فعلا العباد مهما كان، فان الزعم بأن هناك شيئا أو فعلا لم يبينه الكتاب، وان هذا الدين لم يكمله الله، بدليل وجود فعل لم يذكر حكمه، فهو دين ناقص، وهذا معارض لنص القرآن ولذلك يكون زعما باطلا.

فالقول بأن الصورة التي جاء بها الإسلام لنظام الحكم كانت ساذجة وبدائية، ولا تصلح للتطبيق في العصر الحديث، ينطوي على دعوى خطيرة ومرفوضة من أساسها أيا كان قائلها لأن شريعة ذلك الزمان الذي نزل فيه القرآن هي شريعة كل زمان، جاءت للإنسان في كل زمان وفي كل مكان، لا لجماعة من الناس في جيل من الأجيال، وفي مكان من الأمكنة.

فالشريعة شاملة كاملة لجميع نواحي الحياة فلا نقصان فيها ولا زيادة من البشر عليها في جميع الأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فكان الإسلام هو ذلك الدين الشامل الكامل القادر على معالجة ما دق وجل من مشاكل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والخروج عن هذا المنهج في جزئية منه، كالخروج عليه كله، يعني ان الشرع قد جاء بكل حكم لازم التقيد بما حكم به بوصفه صاحب السيادة. لأنه لو ترك للعقل الاهتداء إلى وجه الثواب والعقاب لما كان في قدرته في ذلك.

ـ(422)ـ

وبالتالي، فانه يضع القوانين حسب الهوى، فتقصير العقل عن إدراك الإمارات التي جاءت بها الأدلة الشرعية لدليل على عجز العقل عن سن القوانين. لذا فالأحكام الشرعية المستنبطة من الأدلة، كافية في الكشف عن جميع النظم الإسلامية، بواسطة الاجتهاد، وعدم القدرة عليه، لا تعنيگ رمي الشريعة بعدم الشمول والإحاطة. لأن هذا يعني عدم الإيمان بقوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ وبالتالي إقرار بأن هذا الدين ناقص. ولا يجوز لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر ان يقول: بأن هناك فعلا أو شيئا ليس لـه حكم مسايرة لروح التطور وحتى تتناسب الشريعة مع كل زمان ومكان، لأنه لا يجوز ان يكون حكم لشيء ما أو فعل ما، دون ان يكون لـه دليل من الشرع لأن الحكم هو خطاب الشارع.

ولا يجوز الادعاء من بعض الناس بأن هناك شيئاً لم يبين الشارع حكمه يعني ان هناك شيئا لم يبينه القرآن ناقص، لمعارضة القرآن الدال على كمال الشريعة وشمول الإسلام. لكل ما يمكن صدوره عن الإنسان من أفعال ففيه ما ينظم للإنسان كل نواحي الحياة في كل زمان ومكان.

فكل قول مهما كان قائله يذهب إلى وصف الإسلام بعدم آتيان بنظام ما للإنسان، قول ساقط الاعتبار فضلا عن مخالفته لصريح القرآن، والمسألة ليست مسألة بيان أوجه الحكم المترتبة على هذا القول، بقدر ما هي ناسفة للإسلام من جذوره. كقول المراغي شيخ الأزهر.

فالإسلام عقيدة انبثقت عنها أنظمة تنظم كل ما في الحياة والإنسان، شاملة كاملة، وقد أحاطت الشريعة بجميع أفعال الإنسان أحاطه تامة للأصول والفروع، للكليات والجزئيات، حاوية لأحكام المشاكل الجارية جميعها، والحوادث التي يمكن 

ـ(423)ـ

حدوثها بأكملها، فلكل شيء أو فعل حكم في الشريعة لقولـه تعالى ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ لذلك يقول فضل الله في تصوره للإسلام ردا على التصورات الفردية والحركات السياسية الرافضة نظرية الحكم في الإسلام يحن يقول: دع الخلق للخالق وأهل السياسة فهو طرح لا يقرّه الإسلام. لان النظرية السياسية من أركان الإسلام، وأنا لا نتصور كيف يمكن ان يكون الإسلام بعيدا عن الحكم، والإسلام يملك فقهاء يمثل القانون الشامل لكل نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

ونبه الإمام الخميني إلى خطر فصل الدين عن السياسة فقال: ان أحد قادة الاحتلال البريطاني للعراق حينما سمع صوت المؤذن سأل عن الضرر الذي يسببه هذا الأذان للسياسة البريطانية، فأجيب بأنه لاضرر من ذلك قال: فليقل ما شاء مادام لا يتعرض لنا، وأنت إذا كنت لا تمس السياسة وكنت في دراستك للأحكام لا تتجاوز النطاق العلمي فلا شأن لهم معك.

فالإسلام دين العاملين المجاهدين.. ولكن الأعداء أظهروا الإسلام بغير هذا المظهر فقد رسموا لـه صورة مشوهة، وغرسوها حتى في المجامع العلمية.

وقال الخضر الحسين: ان فصل الدين عن السياسة هدم لمعظم حقائق الدين ولا يقدم عليه المسلمون إلا بعد ان يكونوا غير مسلمين، لأن عقيدة فصل الدين عن الدولة عقيدة كفر لأنها تعطيل لآيات الحكم وإيمان بآيات العبادات لقولـه تعالى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ وقولـه: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾.

وهناك الآيات الكثيرة الدالة على تفصيلات الحكم في الإسلام. فإذا لم يكن للإسلام دولة فلماذا نزلت هذه الآيات ؟ ومن الذي يطبق ما فيها من الأحكام ؟ وعلاوة

ـ(424)ـ

على ذلك فإن الواقع التاريخي في حياة النبي والصحابة ومن بعدهم يدل دلالة واضحة على ان الإسلام كان نظاما للدولة والحكم. وإذ أنكر على الإسلام ان لـه دولة تنفذ الأحكام، وتسوس الأمة، فماذا يفعل في نصوصه الصريحة في الحكم ؟ وكيف نغمض أعيننا عما كان يفعله النبي من إرسال الولاة للأقاليم، ليحكموا بين الناس في أمورهم ؟ حقا ان الاستعمار قد أوغل في ماديته، حين افترى على الإسلام أنه دولة دينية وحين افترى عليه ان الدين غير الدولة، وحين افترى عليه أنه ليس للإسلام دولة.

ومع ان هذه المفتريات متناقضة مع بعضها، ومناقضة للحقيقة التاريخية التي لا ينكرها إنسان، مع ذلك فقد خدع أبناء المسلمين بهذه الأباطيل ولسنا بصدد الرد على الاستعمار هذا الافتراء والتضليل، كما إننا لا نتعرض لهؤلاء المفتونين أو المأجورين، لأن قضية كون الإسلام ديننا منه الدولة ليست قضية ذات موضع، لأنها من البداهة بحيث يعلمها حقا كل إنسان، كما يعلم الواحد نصف الاثنين، ولكن القضية ذات الموضوع هي إننا نريد استئناف حياة إسلامية في الحكم، لأنه أمر لازم لنا لزوم الماء للحياة، لنعود إلى نظام الإسلام الذي هو أساس سعادتنا.

ولن نستطيع العودة إليه إلا إذا عادت دولة الإسلام وحكمه، ولذلك يجب ان يصمم المسلمون اليوم على إيجاد الحكم الإسلامي، ليعودوا إلى الإسلام.

4 ـ من حقوق الإنسان: الديمقراطية والتعددية:

تمهيد: نشأة فكرة حقوق الإنسان:

نشأت فكرة حقوق الإنسان في أوروبا في القرن التاسع عشر نتيجة الصراع المحتدم بين الكنيسة ورجالها من جهة وبين المفكرين والفلاسفة من جهة أخرى،

ـ(425)ـ

فقد نادى لوك بالحقوق الطبيعية للأفراد المستمدة من فكرة القانون الطبيعي وهو القانون المستمد من طبيعة الإنسان والأشياء، حيث يتوصل الإنسان بعقله، بعد دراسة خاصيات الإنسان إلى وضع التشريعات الكفيلة بصيانة حقه الفردي وإسعاده في الحياة الدنيا.

بعد الصراع المرير بين الفريقين انتصر رجال الفكر على رجال الكنيسة، فقرروا فصل الدين عن الحياة، ونشأ جراء ذلك المذهب الحر، الذي افرزه فكرة حقوق الإنسان. وبالنظر في هذا المبدأ الرأسمالي نجد ان للحقوق الطبيعية للإنسان أسسا ثلاثة هي:

أولا: ان الحقوق الطبيعية للأفراد سابقة للوجود السياسي، أي سابقة لقيام الدولة، ولذلك تقع على الدولة مسؤولية احترام الحقوق والحريات الفردية، والامتناع عن المساس بها، بل ورعايتها.

ثانياً: ان وقوع تناقض بين سلطة الدولة وحرية الفرد يحسم لصالح الحرية الفردية، وذلك لأن الغاية من قيام الدولة هي حماية الحريات الفردية أي حماية الحقوق الطبيعية للإنسان كفرد.

ثالثا: ان جعل الحرية الفردية أساسا للوجود السياسي للدولة يقتضي تقييد سلطة الدولة بما يحفظ الحرية الفردية وتمنعها من التعسف في تقييد حرية الأفراد.

وبناء على هذه الأسس عمد مفكرو المبدأ الحر الرأسمالي إلى استبعاد القوانين الإلهية التي تقيد الحريات الفردية، وتحدد حقوق الإنسان الشرعية، والى الاستعاضة عنها بالقانون الطبيعي المستند إلى الواقع والعقل، فبرزت فكرة حقوق الفرد مقابل الدولة التي أصبحت تعرف فيما بعد بحقوق الإنسان، فنادت بها الثورة الاميركية عام 1776، والثورة الفرنسية عام 1789، ثم اكتسبت الفكرة بعد الحرب العالمية الثانية،

ـ(426)ـ

على يد هيئة الأمم التي أنشأتها الدول الكبرى، لحفظ مصالحها، وفرض هيمنتها على العالم كأميركا الآن.

وبعد ذلك توالت المؤتمرات، وصيغت المواثيق الدولية الداعية إلى حفظ حقوق الإنسان والتي جعلت الفرد محور اهتمامها وركزت على حماية حرياته الأربع: حرية العقيدة وحرية الرأي وحرية الملك والحرية الشخصية. ففي عام 1948 صدر عن الأمم المتحدة، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وفي عام 1966 صدر العهد الدولي بشأن الحقوق المدنية والسياسية، وفي عام 1993 صدر البيان الختامي لحقوق الإنسان المتضمن تعديلات الميثاق.

تهافت فكرة حقوق الإنسان:

ان فكرة حقوق الإنسان المبنية على الحقوق الطبيعية في الفكر الرأسمالي متهافتة تنظيرا وواقعا. فمن حيث التنظير نجد ان بعض المدارس الفكرية كالداروينية اليهودية قد نادت بقاعدة البقاء للاصلح وهذه تنكر حق بعض الأفراد في الحياة، وهي تناقض الحقوق الطبيعية لكل فرد. لقد كان للوثيقة الفرنسية فعلها الكبير في إطار الحركات الإصلاحية في القارة الأوروبية. ثم انتقلت بعض تأثيراتها إلى العالم الإسلامي فيما يسمى بعصر النهضة.

وبعض النظريات في علم النفس التي يتبناها الرأسماليون، تدّعي ان بعض البشر عدوانيون بطبعهم، والبعض الآخر أليفون بطبعهم وبذلك لا توجد مساواة طبيعية بين الناس تعطي كل إنسان الحق نفسه، ويترتب على توحيد حقوق الإنسان فقدان بعض الناس لحقوقهم.

كذلك لا يوجد اتفاق بين المفكرين على وجود حقوق طبيعية أصلية بمعزل عن الوجود المجتمعي، فالعديد منهم يرى ان التشريع المتضمن حماية حقوق الإنسان

ـ(427)ـ

وليد التطور المجتمعي والمادي معا، ولا يمكن فصله عنهما. اما من حيث الواقع، فان الدساتير والمواثيق الوضعية تناولت حقوق الإنسان بأسلوب عطفي أدبي، مما يعطي المرونة للسلطة الحاكمة في إقرار بعض الحقوق، وفي التنكر لبعض الحقوق الأخرى، وتمكنها هذه الصياغة غير القانونية، من الالتفاف على النصوص ولي أعناقها لما فيه مصلحة هذه السلطة.

كذلك لم تشر المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، إلى آلية تنفيذ تلك الحقوق، فلم تنص على الطرق أو الوسائل الكفيلة بضمان تلك الحقوق، ولا على عقوبة محددة لخرقها، واكتفت بالنص على ضرورة الالتزام بها وصيانتها. التزاما أدبيا. لا سلطة تنفيذية لانتهاكها، ولذلك تنتهك في بلاد كثيرة دون صيانتها بالديمقراطية المتهافتة التي يدعون إليها لصيانة حقوق الإنسان.

ـ(427)ـ

وليد التطور المجتمعي والمادي معا، ولا يمكن فصله عنهما. اما من حيث الواقع، فان الدساتير والمواثيق الوضعية تناولت حقوق الإنسان بأسلوب عاطفي أدبي، مما يعطي المرونة للسلطة الحاكمة في إقرار بعض الحقوق، وفي التنكر لبعض الحقوق الأخرى، وتمكنها هذه الصياغة غير القانونية، من الالتفاف على النصوص ولي أعناقها لما فيه مصلحة هذه السلطة.

كذلك لم تشر المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، إلى آلية تنفيذ تلك الحقوق، فلم تنص على الطرق أو الوسائل الكفيلة بضمان تلك الحقوق، ولا على عقوبة محددة لخرقها، واكتفت بالنص على ضرورة الالتزام بها وصيانتها. التزاما أدبيا. لا سلطة تنفيذية لانتهاكها، ولذلك تنتهك في بلاد كثيرة دون صيانتها بالديمقراطية المتهافتة التي يدعون إليها لصيانة حقوق الإنسان.

هذه الكلمة كثيرا ما نسمعها اليوم في الأندية السياسية والمحافل العلمية، وهي لا تزال تعاد وتكرر منذ أواخر القرن الماضي. ولكن الذين ينطقون بها، ويلهجون بذكرها، قلما يوجد من درس الإسلام فكريا، وانعم النظر في أحكامه،واجتهد ان يتفطن إلى أوضاعه السياسية ووقف شيئا من جهده لمعرفة مقام الديمقراطية في الإسلام. وتطبيقها في البلاد الإسلامية لمحاربته.

هل الديمقراطية نظام جاءت به العقيدة الإسلامية، فنأخذ به وننادي بتطبيقه ؟ أم نظام لم تأت به العقيدة، فنقف منه موقفنا من كل ما أحدث في الإسلام مما هو ليس منه فنرده ولا نأخذ به. لكن الذي وقع، ان الغرب عند غزوه الفكري للعرب نشر أفكاره بين المسلمين على إنها أحكام شرعية، ورصد الجوائز لمن يقدم أبحاثا من علماء الأمة الإسلامية تدور حول أفكاره على إنها أفكار إسلامية.

وانه لعجيب حقا ان نجد كثيرا من علمائنا ومفكرينا يحاولون ان يدخلوا تحت

ـ(428)ـ

راية الإسلام واسمه نظرية غربية غريبة عليه، في الوقت الذي نجد فيه بعض كبار علماء الفقه الدستوري في الغرب يهاجمون تلك النظرية، ويرون ان الظروف التاريخية التي أدت إلى استنباطها قد أصبحت في ذمة التاريخ.

وهذا ما جرى لكثير من العلماء حين عدوا نظرية سيادة الأمة والديمقراطية أحكاما شرعية. وعلى هذا يمكننا القول: انه من باب التضليل المؤدي إلى أبعد الحدود، ان يحاول الناس تطبيق مصطلحات لا صلة لها بالإسلام على الأفكار والأنظمة الإسلامية. لقولـه تعالى ﴿لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا﴾.

فقد وصلت الجرأة بالبعض على وصف الأفكار الغربية بأنها من أسمى ما انزل الله تعالى في القرآن العظيم. ولا ريب في هؤلاء إنّما هم مهمزومون فكريا، مصبوغون ثقافيا، بحضارة الغرب وأفكاره، لأنه قد غشّى على أفكار الباحثين المهزومين ذلك التصور الغربي لطبيعة الدين. كما قال سيد قطب في معالم الطريق ص 81 فراحوا يكملون الإسلام بثقافة الغرب الكافر، فعدوا الديمقراطية حكما شرعيا، وسموها الديمقراطية الإسلامية. لأنه قد نزل القرآن بها والنهي عنها بقوله: لا تقولوا راعنا وجاء الإسلام فشمل دعوة صريحة إلى نظام حكومي هو الديمقراطية في أسمى أوضاعنا. كما قال العربي في النظم الدستورية الحديثة ص 171. بل رموا بالجهل من لا يعلم ذلك ورأوا ان كثيرا من المسلمين لا يعلمون قاعدة الإسلام في نظام الحكم. لأنهم لو تأملوا ما كان عليه الخلفاء الراشدون، وهو أشد صور الحكم الإسلامي انطباقا على الشرع لرأوه ديمقراطيا بحتا.

أي ان الديمقراطية قد قام إجماع الصحابة على انها صورة نظام الحكم الإسلامي، ذلك لأن أهم ما تحتوي عليه الديمقراطية من عناصر، وأفضل ما تتميز به من صفات، يشتمل عليه الإسلام، كما يقول الريس في النظريات السياسية الإسلامية ص 337.

ـ(429)ـ

من أجل ذلك قيل عند الشكعة في كتابه: إسلام بلا مذاهب ص 38: لا جرم اذن ان يقال ان الإسلام أبو الديمقراطية. وأول ما تقتضيه الديمقراطية السليمة هو تنفيذ قولـه تعالى: ﴿...وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾.

وبناء على هذا النص فانهم قرروا ان الشورى هي لب الديمقراطية وأصلها عند سيد سابق في كتابه: عناصر القوة في الإسلام ص 119. فإذا كان هذا هو رأي العلماء والأدباء والمفكرين ورجال القانون في ان الديمقراطية حكم من الأحكام الشرعية، لذا ترى معظم الدساتير في بلاد المسلمين، قد نصت على ان الديمقراطية هي نظام الحكم وان السيادة للشعب.

بينما تحتل الديمقراطية هذه المكانة عند الناس في العالم الإسلامي، وتخلع عليها الأوصاف الشعبية لتحبيب الشعب بها ليقبلوا نظاما للحكم، نجد ان النظام الديمقراطي يتعرض في بلاده إلى النقد، وعدوا إرجاع ملكية السيادة للامة عملا مخيفا. لأن ذلك المبدأ يقذف بنا للسير في الطريق المخيف للاستبداد البرلماني.

انهم يرون في النظام الديمقراطي القائم على نظرية سيادة الأمة... يترع بأصحابه إلى اعتبار إرادة الأمة إرادة مشروعة بذاتها أي إلى اعتبار أنها تمثل دائماً الحق والعدل...

ان هذا المبدأ ينطوي على الادعاء بأن السلطة تكون مشروعة نظرا لمصدرها، وبناء على ذلك فكل عمل صادر عن إرادة الأمة يعد عملا مطابقا لقواعد الحق والعدل، وانه يعد إذا فوق متناول الشك والمناقشة من هذه الناحية، لا لسيب إلا لأنه صادر عن إرادة الأمة، فهذا المبدأ ينسب إلى الشعب صفة العصمة من الخطأ، ولذلك فهو يؤدي بالشعب أو ممثليه إلى الاستئثار بالسلطة المطلقة أي إلى الاستبداد انه طالما كانت إرادة الشعب تعد مشروعة، لا لشيء إلا لكونها صادرة من الشعب فان الشعب يستطيع ان يفعل كل شيء، وهو يغدو في غير حاجة إلى ان يأتي بمبررات لما يعمل ويريد.

ـ(430)ـ

أن وجود النظام الديمقراطي من خلال فرض واقع السيادة للأمة قد عاد بنتائج عكس ما كان اتباع النظام الرأسمالي يتوقعونه. فهم يرون ان نظرية سيادة الأمة رغم أنها نظرية مصطنعة، فإنها كانت تصبح جديرة بالتأييد لو إنها كانت مفسرة للحقائق، ولكن الواقع عكس ما كنا نتوقع كما يقول ستيوارت في نظم الحكم الحديثة ص 359.

ان الشيوعيين يصرون على ان الفقه الديمقراطي القائم على حرية الفنون والعلوم والسلوك الشخصي، إنّما هو مذهب فاسد، وانهم يحتجون بأن الديمقراطية بإفساد الشعب وخاصة شبابها عن طريق الأفلام والمسرحيات وبث التفاهة والفحشاء باسم الحريات العامة والخاصة.

أذن فالديمقراطية تعيش في أذهان جماهير المسلمين محلاة بأبهى صورة، وفهمهم لها إنّما هو قائم على أساس ان الديمقراطية هي الشورى الإسلامية. فهل الديمقراطية حكم شرعي دلت على النصوص ؟ أم ان الديمقراطية حكم من أحكام الكفر... وبالتالي يحرم تطبيقها، لأنه نظام كفر ما أنزل الله به من سلطان ؟ قائم على أساس ان السيادة للامة.

والسيادة في الإسلام للشرع تنقصّ الواقع الصحيح للديمقراطية بمفهومها المشخص في عقلية الرأسماليين، لا بمفهومها المغلوط لدى العلماء والمفكرين، المصبوغين المهزومين من أبناء المسلمين. وتبني الديمقراطية وفرضها على شعوب العالم أجمع وذلك بالقوة والترغيب والترهيب، والإقناع فأن أميركا حامية وحارسة للديمقراطية، ترسل جيوشها للحفاظ عليها، وعلى ما ينبثق عنها من أفكار كالحريات العامة وحقوق الإنسان.

والديمقراطية كما هو معروف نظام وضعي عقيدتها تناقض عقيدة الإسلام ونظامها

ـ(431)ـ

يخالف نظام الإسلام الشورى الوحدوي. بتبني التعددية السياسية في البلد الواحد، وهي فكرة مبنية على النظام الديمقراطي بحيث يسمح بتشكيل أحزاب مهما كانت الأفكار القائمة عليها من أجل فهم الإسلام فكرة وطنية، لا دين أمة واحدة، واحتواء الحركات الإسلامية، وتوجيهها لقبول الديمقراطية والتعددية السياسية، والحريات العامة وقوانين الأمم المتحدة، لتمييع أفكار الإسلام وإبعاده عن الحياة.

لأن عقيدة الديمقراطية تفصل بين الدين والحياة والسياسة. وعلى تسخير الحكام والعلماء والمفكرين التابعين لها بوضع المنهج التعليمي التي تخدم هدفها لتنشىء جيلا جديدا منكرا لاسلاميه وحضارته. داعيا إلى نظام شرق أوسطي وتنمية اقتصادية ومعاهدات سلام بين إسرائيل والمسلمين، للقضاء على عقيدتهم.

باسم الوسطية والحل الوسط الذي لم يظهر عند المسلمين إلا في العصر الحديث. وقصد به الاعتدال، وهو مصطلح دخبل في لفظه ومعناه، مصدره الغرب والديمقراطية، ذلك المبدأ بنيت عقيدته على الحل الوسط، الذي نشأ نتيجة الصراع الدموي بين الكنيسة والملوك التابعين لها من جهة، وبين المفكرين والفلاسفة الغربيين من جهة أخرى.  

وبعد صراع مرير بين الفريقين اتفقوا على حل وسط وهو الاعتراف بالدين كعلاقة بين الإنسان والخالق، واتخذت الديمقراطية فكرة فصل الدين عن الحياة، عقيدة لمبدئهم، الذي انبثق عنها النظام الرأسمالي، الذي نهضوا على أساسه ثم حملوه إلى غيرهم من الناس بطريقة الاستعمار.

وكان أثر هذا الحل الوسط بارزا في كل تشريع أو سلوك عند أصحاب المبدأ الرأسمالي، فاعتمدوا على رأي الأغلبية في اخذ التشريع وهم في سلوكهم تجاه القضايا السياسية يتبنون الحل الوسط ففلسطين مثلا، يطالب بها العرب المسلمين على

ـ(432)ـ

إنها كلها بلادهم، وفي نفس الوقت يدعي اليهود إنها أرض الميعاد، فتتفق الدول الأجنبية عام 1947 على ان حل المشكلة الفلسطينية هو إقامة كيانين في فلسطين، ومبدأ الأرض مقابل السلام، ويظهر هذا الحل في كثير من المشكلات الإسلامية.

وبدل ان ينقد المسلمون فكرة الوسطية، ويبينوا خطأها وزيفها، أخذوا بها وصاروا يدعو إليها وإنها موجودة في الإسلام، بل هو قائم عليها، فهو بين الروحية والمادية وبين الفردية والجماعية، وبين الواقعية والمثالية، وبين الثبات والتغير فلا غلو ولا تقصير، ولا إفراط ولا تفريط.

فلا عجب ان تتجلى في كل جوانب الإسلام، فالإسلام وسط في الاعتقاد والتعبد، ووسط في التشريع والأخلاق وهكذا... تكون الدعوات والأفكار والمؤتمرات، الداعية إلى وحدة الأديان الماسونية، والحوار بينها، ما هي إلا هجمة يشنها أعداء الإسلام على هذه الأمة، لتشويه أفكار الإسلام وتمييعها، ولحرف المسلمين عن دينهم الصحيح، بضرب رابطة العقيدة عندهم، وإبدالها بروابط الوطنية والقومية بقولهم: حب الوطن من الإيمان والدين لله والوطن للجميع.

الخلاصة الشمولية

أ ـ مظاهر:

_ شمول النظام الإسلامي لكل نواحي الحياة.

_ الترابط والانسجام بين الأنظمة الإسلامية.

_ العلاقة بين النظرة الكونية والقيمة السلوكية.

_ العلاقة بين الدين والدنيا والدولة.

ـ(433)ـ

ب ـ نفي الشبهات والأخطاء:

_ التجزئة بين الدين والدولة.

_ العلمانية.

_ التصورات الفردية للإسلام.

_ التعددية (بلور اليسم).

تناول نظام الإسلام جميع شؤون الحياة، بشكل عام، وأسلوب واحد ولهذا لا يتناول مشكلة في عزله عن باقي المشاكل بل يتناول جميع المشاكل ويضع لها قواعد كلية عامة وخطوط عريضة متفقة مع القواعد الكلية، حتى تتمشى المعالجة وفق فلسفة كبرى تنبثق عنها هذه القاعد العامة، ولذلك كانت طاقة الإسلام قوية، وكانت قواعده ثابتة، وصالحة لمختلف العصور والبيئات، فتتسع القاعدة العامة الواحدة لكافة الحوادث المنتظمة في سلكها إذا اتفقت في حقيقتها، ولا تتغير الأحكام بتغير الزمان، أي لا يكون الزمان والعرف سببا للحكم، بل يدور مع علته الشرعية وجودا وعدما، وما لا ينص فيه فوظيفة الاجتهاد استنباط حكم من القواعد الثابتة، وعلى هذا كان لزاما على المسلمين ومنهم العرب وضع الدستور اللازم والقوانين والأنظمة لمعالجة مشاكلهم من الإسلام وفق المصلحة العامة للامة.

ويسمى هذا دستورا وقانونا إسلاميا إذا استنبطت إحكامه باجتهاد صحيح من نصوص الإسلام في أصوله ومصادره: القرآن والسنة والإجماع والقياس.

وبهذا يوجد الحل الحاسم للمشاكل العامة والخاصة في كافة شؤون الحياة للامة سياسة واقتصادا واجتماعا. فهذه الأنظمة مترابطة ومنسجمة فيما بينها لأن النظم هي ضوابط الأعمال الإنسانية في الحياة سواء كانت هذه الأعمال ناتجة عن علاقة الرجل بالمرأة أم عن علاقة الفرد بالفرد من ناحية اقتصادية، أم ناتجة عن ضمان حسن علاقة

ـ(434)ـ

الفرد بالفرد بوجه عام، ام عن علاقة الفرد بالدولة باعتباره محكوما وباعتبارها حاكمة، ام ناتجة عن علاقة الجماعة والدولة بغيرها من الدول، وهذه الأعمال كلها لأبد لها من أنظمة تضبطها. لان التعارض بينهما أساسي في طبيعتهما ومن هنا قامت في المسيحية سلطتان، روحية وزمنية، وكان رجال الدين يحاولون ان تكون السلطة الزمنية معهم، حتى يرجحوا عليها السلطة الروحية في الحياة، ومن ثم تنشأ النزاع بين السلطة الزمنية والروحية.

وأخيرا تم جعل رجال الدين مستقلين بالسلطة الروحية لا يتدخلون بالسلطة الزمنية، نتيجة صراع الفلسفة العلمانية للمفكرين وفلاسفة الغرب، ونتج عنهم فصل الدين عن الدولة، ويمثل الناحية الروحية القس.

وهذا هو أساس الحضارة الغربية، وهو موضوع القيادة الفكرية التي يحملها الاستعمار الغربي للعالم وينشرها به. ويجعلها عماد ثقافته وتعليمه وسياسته، ويزرع على أساسها عقيدة المسلمين بالإسلام، لأنه يقيس الإسلام بالمسيحيين على طريقة القياس الشمولي. فكان من يحمل هذه الدعوة عقيدة فصل الدين عن الدولة أو السياسة، إنّما هو تابع وموجه بتوجيه القيادة الفكرية الغربية، وعامل بحسن نية أو سوئها من عملاء الاستعمار، لان الإسلام يرى ان انفصال الناحية الروحية عن الناحية المادية في الحياة يؤدي إلى اضطراب نظام الكون واختلال شؤون الإنسان، ويرى ان لا تعارض بين الناحيتين: الدين والدولة. اللتان كان أول من دعا لفصلهما الشيخ علي.

1 ـ ففي الكتاب الأول: يهدم عبد الرزاق فكرة الخلافة زاعما انه لم يجد دليلا على حكمها من كتاب أو سنة أو إجماع وليس في أصول الشريعة ما يلزم بفرضها وضرورتها. وإثبات ان الخلافة: تخالف الإسلام وما أجمع عليه المسلمون وتناقض الحقائق الثابتة وتشكك في الخلافة ونفاها أصلا بأفكار الأدلة القطعية الصريحة عليها دون تقديم أدلة قوية واضحة على ما يذهب الله.

ـ(435)ـ

2 ـ وفي الكتاب الثاني : يهدم فكرة الحكومة في الإسلام، ويبين إنها خارجة عن شريعته بفصل رسالة الإسلام عن الحكم، ويقرر أنه رسالة لا حكم. ودين لا دولة.

3 ـ أما الكتاب الثالث : يعرض فيه الخلافة الإسلامية والحكومة الإسلامية خلال العصور. ويختم كتابه (1) بأنه لا شيء في الدين يمنع المسلمين مسابقة الأمم الأخرى في السياسة وهدم ذلك النظام العتيق الذي ذلوا فيه وبناء قواعد ونظام حكمهم على أحدث ما أنتجت العقول البشرية، وأحسن ما دلت تجارب الأمم أنه خير أصول الحكم والنتيجة التي تريد ان يصل إليها من خاتمة كتابه هي : هدم نظام الإسلام القديم المذل للمسلمين كما يصفه وبناء نظامهم على نظام الغرب العقلي وتجارب أممه التي يقول عنها أحسن حكم والله يقول عن حكمه : ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا﴾ فالدولة والخلافة هي طريق الإسلام والمسلمين الصحيح والوحيد لتطبيق حكمه وشريعته. والفصل بين الدين والدولة هدم للدين والحكم والشريعة وجعله فلسفة ثقافية نظرية كما يقول عنه الحكام والمحكومون.

وبما ان أنظمة الإسلام منبثقة عن فكرة واحدة هي عقيدته فمن البديهي ان يكون لهذه الأنظمة عن اختلافها قواعد كلية تجمعها بانسجام حتى يكون علاجها منسقا للأعمال منتجا المجتمع الإسلامي، بالنظم الإسلامية المترابطة التي تنظم للإنسان القيام بتكاليف الحياة. يرفع شأن الجماعة ويسعدها، ويحفظ بقاءها، والقيام بالأعمال وفق هذه النظم عبادة لأنها يجب تسييرها بالمثل الأعلى رضا الله ومقصود أمنها تحقيق أجابة الله.

________________________________

1 ـ علي عبد الرزاق : الإسلام وأصول الحكم ص 160.

ـ(436)ـ

وعلى هذا الاعتبار قامت الأنظمة الإسلامية التي عالجت جميع شؤون الحياة للامة بأكملها، وربطها بها وانسجامها معها لتحقيق الوحدة. في قولـه تعالى ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾. لتنبثق القيم السلوكية من النظرة الكونية للكون والإنسان والحياة وإيجاد المفاهيم الصادقة المنتجة عنها. وكان هذا الحل نفسه هو الأساس الذي يقوم عليه النظام الذي يتخذ وسيلة للنهوض، وهو الأساس الذي تقوم عليه حضارة، وهو الذي تنبثق عن الأنظمة، وهو الأساس الذي تقوم عليه دولته. ومن هنا كان الأساس الذي يقوم عليه الإسلام فكرة وطريقة هو الإيمان بالله والنظرة الكونية للكون والإنسان والحياة التي هي أرقى نماذج الحياة.

والإنسان أرقى نماذج الكون فهي مسخرة لـه. ولذلك كان بالحق والمنطق أرقى عناصر الوجود. وما يصدق عليه يصدق على الحياة والكون بالأولى، فالكون محدود، لأنه مجموع أجرام وكل جرم منها محدود، ومجموع المحدودات محدود.

وإذا نظرنا إلى الإسلام نجده محدودا لأنه ينمو في كل شيء إلى حد معين، فهو بداهة محدود. ووجود المحدود دليل على وجود غير المحدود. المختلف قطعا عن المحدود، وبما ان المحدود مادة فغير المحدود غير مادة. وغير مدرك للمحدود، فكان هذا الوجود لله. وقيمة منبثقة عنه ومرتبطة به فالإنسان يجب ان يكون سائرا في الحياة وفق أنظمة الله جميعاً، لأن الإسلام ليس دينا لاهوتيا وأنه يقضي على الاستبداد الديني.

فلا يوجد في الإسلام جماعة تسمى رجال دين وجماعة تسمى رجال دنيا، فهو دين ودنيا، بل جميع المعتنقين للإسلام مسلمين. وكلهم أمام الدين سواء، وهذا ظاهر من فسلفة الدين العامة في العلاقة بين الدين والدنيا في مزج المادة بالروح في نظامه، وجعله نظاما عاما واحدا شاملا لهما. وسر هذا المزج الذي يمتاز به الإسلام، هو النظرة

ـ(437)ـ

العميقة للكون والإنسان والحياة، وقد نظرت بعض الأديان والأنظمة إلى أن المحسوس يتعارض مع الغيب.

ولذلك كان مزج المادة بالروح واجب، ليكون للروح أثر يطهر في المادة، وفي توجيهها نحو غاية سامية. ولهذا يجب ان يقضي حسب فلسفة هذا النظام على كل ما يمثله الناحية الروحية عن الناحية المادية. ولذلك فلا رجال دين فلا الإسلام، وليس سلطة دينية. ولا سلطة زمنية منفصلة عن الدين، بل الإسلام دين منه الدولة، وهي وسيلة لتنفيذ النظام. فسلطان الإسلام واحد يشرف على الدين والدولة، وهي وسيلة لتنفيذ النظام. فسلطان الإسلام واحد يشرف على الدين والدولة. ويجب إلغاء كل ما يشعر بتخصيص الدين بالمعنى الروحي، وعزله عن السياسة والحكم، وفصل المادة عن الروح كما عند النصرانية، وهكذا سلك الاستعمار إلى التغريب كل سبيل. وتغلغل في كل الميادين والفنون والقانون والتربية والتاريخ وغيره. واستعان عليه بالبرامج التعليمية والإعلامية والمؤتمرات التي يتعاون فيها المستغربون والمستشرقون على توجيه الفكر الإسلامي والهيئات الإسلامية ورجالات الدولة والعلم والفكر.

وكان أهم ما اعتمد عليه من أساليب نشر الاهتمام بالآثار وتوجيهها لتدعيم العصبيات الإقليمية والعناية بالدراسات المقارنة التي تزعمها : السنهوري وتلامذة مدرسته التغريبية الفكرة والمنهج القانوني المقارن امتدادا لمدرسة محمد عبده المقارنة بين الإسلام وغيره في دراسة وتدريس الشريعة الإسلامية والقوانين الغربية وهي عين ما يطلبه الاستعمار، ويعمل لـه لتبديل الشريعة بالقانون، وهي شر الحلول الغربية التي تأثر بها المسلمون والتي يصف جب (1) دورها في العالم الإسلامي ومستقبل التغريب وما يصحبه من تعديلات لمعرفة المقياس الصحيح للنفوذ الغربي

ـ(438)ـ

وتغلغل الثقافة الغربية في الإسلام بالبحث عن الآراء الجديدة والحركات المستحدثة بدافع من التأثر بالأساليب الغربية لتصبح جزءا من كيان الدول الإسلامية.

ومن هنا بدأت المؤلفات المقارنة بتقديم زعيمها السنهوري رسالة الدكتوراه عن الخلافة (1) إلى جامعة ليون عام 1926 بعد سنة من صدور كتاب علي عبد الرزاق.

وقدّم السنهوري بحثا إلى قسم الدراسات القانونية في معهد الدراسات العليا التابع للجامعة العربية يرسم فيه منهجه المقترح لدراسة الفقه الإسلامي في ضوء القانون المقارن مبينا فيه ان الفقه من وضع الفقهاء (2) : وتركيزه في تيارات من التفكير القانوني بمقارنة الفقه الغربي الحديث حتى يتضح وجه الشبه.

ويقصد بذلك خرافة تأثر الفقه الإسلامي بالفقه الروماني : الشبهة الغربية لتبرير وضعه القانوني المدني مستمدا من الروماني والغربي وأما مصادر الفقه الإسلامي ابتدعها الفقهاء عند السنهوري لتمتد يد التطور إليها متأثرا بمحمد عبده في دعوته إلى النظام الديمقراطي الغربي، الذي عقيدته، فصل الدين عن الدولة، المناقضة للعقيدة الإسلامية ومخالفته لنظام الإسلام، لأنه يستند إلى الشعب، مصدر السلطات الثلاث.

ومن المساوئ البارزة للديمقراطية الغربة مقولة الأكثرية، فاختيار الحاكم، ومجلس النواب، وإعطاء الثقة للوزارة، وسنن القوانين كلها تتم بأكثرية أصوات الشعب، وهي فكرة مخالفة للحقيقة، ولا تنطبق على الواقع الصحيح، كما هو حاصل في الانتخابات البرلمانية.

وحتى يضمن القائمون على هذا النظام بقائه، وإقناع الناس بصلاحيته، وضعوا طريقة لاحتواء المعارضين، باسم حرية الرأي الديمقراطي، سمحوا بتعدد الأحزاب،

ـ(439)ـ

فيصل بعضها إلى سدة الحكم بالحصول على أغلبية برلمانية، وأحزاب المعارضة، هي التي تتولى قيادة المعارضين لقرارات السلطة التنفيذية، بالإضرابات ضمن الدستور وما ينبثق عنه من قوانين تحت شعارات المصلحة العامة، ومصلحة الوطن ويجاري الظروف والأوضاع.

فالمعارض في النظام الديمقراطي، وظيفة تقتضيها  اللعبة الديمقراطية المقصود منها احتواء الظروف والأوضاع، وظيفة تقتضيها اللعبة الديمقراطية لاحتواء وامتصاص التيار المعارض لتسهيل سن القوانين، وتنفيذ القرارات التي تنفذها السلطة الممثلة للأغلبية.

 فالتيار المعارض مرسوم لـه ان لا يصطدم مع السلطة لإيقافها، وإنّما السلطة تنفذ أعمالها باسم الأغلبية، والمعارضة تقود الرأي الآخر وتحتويه لتحمي النظام منه، فالمعارضة صمام الأمان تخدم النظام، فتزين وجهه القبيح للأكثرية، وتمتص الساخطين عليه، هذه هي المعارضة في بريطانيا وأميركا، أما بالنسبة للعالم الثالث، ومنه العالم الإسلامي التي تدعي الديمقراطية التي أجبرت على ارتدائها، فإنها صنعت المعارضة المشروطة بيدها، وشكلتها على هواها، بالشكل الذي تريد كما وكيفا، لتكون خادمة لها في بقائها، وفي ادعائها الديمقراطية وحرية الرأي، من أجل تنفيذ ما تطلبه الدول السيدة منها، هذه حقيقة المعارضة في النظام الديمقراطي الحقيقي، وفي الديمقراطية المزيفة.