حديث التقريب ..

بالعلم والإيمان نجتمع

بالعلم والإيمان نجتمع

انبهار العالم الإسلامي بالغرب، أفرز تصورات خاطئة منها علاقة العلم بالإيمان الديني؛ رأى بعضهم أن الإيمان يتعارض مع العلم، وظنّ أن السبيل الوحيد للتقدم العلمي هو التخلّص من الدين!!

يرى "الأستاذ الشهيد مطهري" في كتابه "الإنسان والإيمان"، أن العلم والإيمان ركنان أساسيان من إنسانية الإنسان؛ فما هي العلاقة بين هذين الركنين الإنسانيين؟ يقول ما ترجمته، انه في عالم المسيحية، ظهرت مع الأسف أفكار توحي بالتناقض بين العلم والإيمان، وتلك الأفكار تستمد وجودها من انحرافات العهد القديم، حيث يقول:
«... وأوصى الإله آدم قائلاً: من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً. وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منه. لأنك يوم تأكل منها موتًا تموت».
ويقول: «وكانت الحية أحيل جميع حيوانات البرية التي عملها الرب الإله. فقالت للمرأة أحقًا قال الله لا تأكلا من كل شجر الجنة، فقال الله لا تأكلا منه ولا تمسّاه لئلا تموتا، فقالت الحية للمرأة لن تموتا. بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر. فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل وأنها بهجة للعيون وأن الشجرة شهية للنظر. فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضًا معها فأكل. فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان، فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر».
ويقول أيضًا: «وقال الرّب الإله هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفًا الخير والشر. والآن لعله يمدّ يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضًا ويأكل ويحيا إلى الأبد».
الشجرة الممنوعة في هذا المفهوم هي - إذن - شجرة المعرفة، وكان أمر الله (الدين) يقضي بعدم اقتراب الإنسان من هذه الشجرة، ولما عصى أمر ربه وصار «عارفًا» طُرد من الجنة.
كل الوساوس التي تساور الإنسان، هي وسوسة المعرفة، ومن هنا كان الشيطان الوسواس هو (العقل) ذاته، في مفهوم العهد القديم!
والمسلم يتملكه العجب حين يسمع هذا.. يعجب لأن القرآن علّمه : أن الله تعالى علّم آدم الأسماء (الحقائق) كلها. ثم قال للملائكة اسجدوا لأدم فسجدوا.. إلا إبليس.. عصى لأنه لم يسجد لآدم العارف بالحقائق.
يعجب لأن السنّة علّمته أن الشجرة الممنوعة، هي رمز الحرص والطمع وأمثال ذلك مما يرتبط بحيوانية الإنسان لا بإنسانيته. والشيطان الوسواس، يوحي دومًا ما هو مناقض للعقل وملائم لهوى النفس الحيوانية، والنفس الأمارة - لا العقل البشري - هي التي تمثل مظهر الشيطان في الوجود الإنساني.
نعم، الإنسان المسلم الذي تربى على هذه المفاهيم، يتملّكه العجب حين يسمع ما جاء في سِفر التكوين.
مما سبق نفهم سبب تقسيم تاريخ الحضارة الأوربية خلال القرون الخمسة والعشرين الأخيرة إلى عصر الإيمان وعصر العلم! وسبب تناقض العلم والإيمان في ذهن الإنسان الأوربي. 
هذا، بينما تاريخ الحضارة الإسلامية يُقسّم إلى عصرين:
- عصر ازدهار العلم والإيمان معًا.
- عصر انحطاط العلم والإيمان معًا.
والمسلم ينبغي أن يكون على حذر شديد من الفهم الأوربي لعلاقة العلم بالإيمان، ومن الانجرار نحو التقليد الأعمى لهذا الفهم الذي جرّ على العلم وعلى الإيمان أفظع الأضرار.
علاقة العلم بالإيمان في الفهم الإسلامي علاقة تكميليّة، أي إن أحدهما يكمّل الأخر.
العلم يمنحنا القوة  وينير لنا الطريق، والإيمان يبعث في قلوبنا الأمل والاندفاع.
العلم يصنع الآلة، والإيمان يرسم الهدف.
العلم يبعث على السرعة، والإيمان يعيّن الاتجاه.
العلم قوة، والإيمان إرادة سليمة.
العلم يكشف عما هو موجود، والإيمان يكشف عما ينبغي أن نعمل.
العلم ثورة خارجية، والإيمان ثورة داخلية.
العلم يحوّل العالم إلى عالم إنساني، والإيمان يصيّر النفسَ نفسًا إنسانية.
العلم يوسّع نطاق وجود الإنسان أفقيًا، والإيمان يرفع مستوى هذا الوجود عموديًا.
العلم يصنع الطبيعة، والإيمان يصنع الإنسان.
العلم والإيمان كلاهما يمنحان الإنسان القوة، لكن العلم يمنحه قوة منفصلة والإيمان يمنحه قوة متصلة.
العلم جمال والإيمان جمال، غير أن العلم جمال العقل، والإيمان جمال الروح.. العلم جمال الفكر والإيمان جمال الشعور.
العلم والإيمان كلاهما مدعاة للاطمئنان، بيد أن العلم اطمئنان خارجي، والإيمان اطمئنان داخلي.
العلم يقي الإنسان من الأمراض الجسمية والكوارث الطبيعية، والإيمان يَقيه من الأمراض والعقد النفسية.
العلم يوائم بين العالم والإنسان، والإيمان يوائم بين الإنسان وذاته.
ويل ديورانت، مؤلف تاريخ الحضارة المعروف، على الرغم من عدم تديّنه يقول:
«عالم الآلة الحديث يختلف عن العالم القديم في الوسائل فقط، لا في الأهداف..
ماذا ستقول لو أن كل تطوّراتنا اتجهت نحو إصلاح الطرق والوسائل ولم تتجه نحو إصلاح الغايات والأهداف؟»
ويقول أيضًا: «الثروة تبعث على الإرهاق، العقل والحكمة يشكلان نورًا باهتًا باردًا. أما العشق فهو الذي يبعث الدفء في القلوب بطريقة يعجز الإنسان عن وصفها».
أغلب المفكرين أدركوا اليوم أن الاتجاه العلمي المحض (ساينتزم) عاجز عن صنع الإنسان، وأنّ التربية العلمية المحضة تصنع نصف إنسان لا الإنسان الكامل.. تصنع الإنسان القوي المقتدر لا صاحب الفضيلة.
لم يعد يخفى على أحد اليوم أن عصر العلم المحض قد انتهى، وأضحت المجتمعات يتهدّدها الفراغ الروحي، فراح بعضهم يحاول ملء هذا الفراغ بالفلسفة المحضة، وبعضهم لجأ إلى الآداب والفن والعلوم الإنسانية.
وفي إيران جَرَت (قبل انتصار الثورة الإسلامية) محاولات لملئ هذا الفراغ بالأدب العرفاني، مثل أدب المولوي وسعدي وحافظ، وأصحاب هذه المحاولة غفلوا أن الآداب تستمد روحها وجذّابيتها من الدين.
الروح الإنسانية في هذه الآداب هي الروح الإسلامية، ولا أدلّ على ذلك من خلوّ بعض النتاج الأدبي المعاصر من كلّ روح وجذّابية على الرغم من تظاهره بالنـزوع إلى الاتجاه الإنساني.
المحتوى الإنساني للأدب العرفاني الفارسي ناشئ عن نوع من التفكير في الكون والحياة، هو التفكير الإسلامي؛ وإن سلبنا هذه الروائع الأدبية روحها الإسلامية، تحوّلت إلى جسد بلا روح.

الفصام بين العلم والإيمان
علمنا أن العلم والإيمان لا يتناقضان، وليس هذا فحسب، بل إن أحدهما يكمّل الآخر.
وهنا نطرح هذا السؤال: هل يستطيع أحدهما أن يحلّ محلّ الآخر؟
العلم لا يستطيع أن يحلّ محلّ الإيمان، إذ إن الإيمان يخلق الاندفاع والأمل، ويرفع سطح تطلّعاتنا، ويبدّل أهدافنا (القائمة طبيعيًا وغريزيًا على أساس الفردية والذاتية) إلى أهداف قائمة على أساس الحب والنـزعات الروحية والمعنوية، ويغيّر محتوانا الداخلي.
والإيمان لا يستطيع أن يحلّ محلّ العلم، فالعلم يعرّفنا على الطبيعة، ويكشف لنا قوانينها، ويعرّفنا على أنفسنا أيضًا.
التجارب التاريخية تؤكد أن انفصام العلم عن الإيمان جرّ على البشرية أفظع الأضرار؛ لابدّ للإنسان أن «يؤمن» على أساس من العلم، فالعلم يقي الإيمان من التلوّث بالخرافات.
انفصال العلم عن الإيمان، يؤدّي بالإيمان إلى الجمود والركود والتعصّب الأعمى.
أينما خَلَت الساحة من العلم والمعرفة، يضحى المؤمنون الجهلة ألعوبة بيد المنافقين المحنّكين، كما حدث ذلك للخوارج وأمثالهم في مختلف العصور الإسلامية.
والعلم، إن لم يقترن بالإيمان، هو سيف في يد متهوّر أهوج، ومصباحٌ في يد سارق يستخدمه في انتقاء المتاع الأفضل عند السرقة.
الطبيعة السلوكية للأفراد غير المؤمنين واحدة لا اختلاف فيها، سواء عاشوا في عصرنا الراهن (عصر العلم) أم في العصور الغابرة.
من هنا لا نجد فرقًا بين أفراد معاصرين مثل هتلر وموسوليني وصدام وشارون، وبين أفراد كانوا يعيشون في عصور خلت من قبل مثل فرعون وجنكيز.
وربما يعترض معترض فيقول: إن العلم قوة وهداية، وقوته وهدايته لا تقتصران على العالم الخارجي، بل إنه يضيء لنا وجودنا الداخلي، وبذلك يمنحنا القدرة على تغيير محتوانا الداخلي. فالعلم يستطيع إذن أن يصنع العالم ويصنع الإنسان، وبمقدوره أن ينهض بالدور الذي ينهض به الإيمان إضافة إلى دوره الخاص.
هذا صحيح طبعًا.. غير أن قدرة العلم وقوته كقدرة الآلة وقوتها، ترتبط بـإرادة الإنسان وأوامره. الإنسان يستطيع باستخدام العلم، أن يقوم بعمل أفضل في كل المجالات، ومن هنا فالعلم أفضل عون للإنسان على طريق تحقيق أهدافه المتوخّاة. وتبقى مسألة الأهداف التي لا يستطيع العلم بكل تطوراته واكتشافاته أن يغيّر منها شيئًا.
الإنسان يمتلك الصفات الحيوانية بالطبع، ويحصل على الصفات الإنسانية بالاكتساب، أي إن الاستعدادت الإنسانية تظهر في الإنسان بالتدريج في ظل الإيمان.
الإنسان بطبيعته يتحرّك على طريق تحقيق أهدافه الحيوانية وتلبية رغباته الذاتية الفردية، ويستخدم كل آلة، بما فيها آلة العلم، على هذا الطريق. ومن هنا كانت هذه الآلة عاجزة عن تغيير مسار الإنسان ورفع مستوى أهدافه وتطلّعاته.
الإنسان بحاجة إلى قوّة تحرّك طاقاته الإنسانية الكامنة، وتفجّر في أعماقه ثورة، وتمنحه اتجاهًا جديدًا. ومثل هذا التغيير، لا يحصل إلا عن طريق الإيمان ببعض القيم وتقديسها. وهذه القيم وليدة نزعات متسامية في الإنسان، وهذه النـزعات تنبثق بدورها من نظرة خاصة إلى الكون والحياة، لا يمكن الحصول عليها من المختبرات ولا من محتوى الأقيسة والاستدلالات. 
انفصام العلم عن الإيمان، أدّى إلى نتائج وخيمة، وهذا ما حدّثنا عنه التاريخ وما نشهده في عالمنا المعاصر.
فحين ساد الإيمان ولم يكن معه العلم، اتجهت المساعي الإنسانية نحو أمور غير مجدية وغير مثمرة غالبًا، بل وأدّت أحيانا إلى خلق الجمود والتعصّب والتحجّر، وإلى نزاعات تافهة مخرّبة، والتاريخ مليء بمثل هذه الصور.
وحين تطوّر العلم ولم يقترن بالإيمان، اتجهت الطاقات العلميّة نحو خدمة نزعات الغرور والكِبرَ والتوسّع والتسلط والاستثمار والاستعباد والمكر والخداع.
القرنان الأخيران، أو الثلاثة الأخيرة، يمكن اعتبارها عصور عبادة العلم والابتعاد عن الإيمان.
كثير من العلماء، خالوا أن جميع مشاكل البشرية يمكن حلّها بعصا العلم السحرية، لكن التجربة أثبتت خلاف ذلك، فلا تجد اليوم بين العلماء من ينكر حاجة الإنسان إلى نوع من الإيمان بشيء خارج عن نطاق العلم، حتى ولو لم يكن إيمانًا دينيًا. «برتراند رسل» مع ماله من اتجاهات مادية يقول:
«العمل الذي يستهدف الحصول على المال فقط، لن تكون له نتيجة مفيدة. ومن أجل تحقيق مثل هذه النتيجة، ينبغي القيام بعمل ينطوي على «الإيمان» بفرد أو بعقيدة أو بهدف».
جورج سارتن، العالم الذي اشتهر بكتابه تاريخ العلم، يصرّح بعجز العلم عن إحلال علاقات إنسانية بين أبناء البشر، ويؤكد على حاجة الإنسان المبرمة إلى دوافع إيمانية، فيقول:
«العلم حقّق في بعض المجالات انتصارات عظيمة وباهرة، لكننا لا نزال نخدع أنفسنا في المجالات الأخرى، مثل السياسة الداخلية والعالمية التي ترتبط بعلاقات أفراد البشر مع بعضهم».
ويؤكد «سارتن» على احتياج الإنسان إلى إيمان ديني، وإلى مثلث الفنّ والدين والعلم فيقول: «الفنّ يميط اللثام عن الجمال، وهو لذلك مبعث سرور الحياة. الدين يبعث على الحبّ.. العلم يتعامل مع الحق والحقيقة والعقل، ويؤدّي إلى فطنة النوع البشري.
ونحن بحاجة إلى هذه العناصر الثلاثة: إلى الفن وإلى الدين وإلى العلم.
العلم بشكله المطلق ضروريّ للحياة، ولكنه غير كاف لوحده على الإطلاق».
فإلى مشروع إنساني عالمي يجمع بين هذه العناصر الثلاثة لتجاوز الكوارث التي تحيط بالمجتمعات البشرية، وهذا من الأهداف الأساسية للجمهورية الإسلامية الإيرانية وللمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية.

المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية/
الشؤون الدولية